قضايا وآراء

أميركا المترنّحة

| مازن جبور

الاحتجاجات العراقية التي وصلت إلى أبواب السفارة الأميركية في العاصمة بغداد سواء كانت عفوية وتعبر عن مطالب وغضب شعبي، أو أنها كانت مفتعلة وموجهة ضمن مخطط أميركي أوسع للعراق وسورية خصوصاً وللمنطقة عموماً، إلا أنها لا تخرج عن سياق الغرق الأميركي المتزايد في المستنقع العراقي والذي جعل من واشنطن تترنح في الشرق الأوسط في ظل التقدم الميداني المتواصل الذي تحرزه دمشق وموسكو وإيران في الميدان السوري.
تدرك واشنطن جيداً أن قدرة تأثيرها في الملف السوري ميدانياً باتت محدودة خصوصاً مع مجموعة من العوامل التي برزت مؤخراً وفي مقدمتها زيادة الشقاق الأميركي التركي وقرار أنقرة بمنع واشنطن من استخدام قواعدها العسكرية لتنفيذ عمليات في سورية والعراق، ليس من مبدأ الحرص على السلامة الإقليمية من قبل النظام التركي وإنما بسبب الخلافات المتصاعدة بين الطرفين في سورية وليبيا وربما لكيان الاحتلال الإسرائيلي دور في تنامي حدة تلك الخلافات نظراً للخلافات القائمة بين تل أبيب وأنقرة والتي تتصاعد كلما تنامى النفوذ التركي في المنطقة وتراجع النفوذ الإيراني.
إن الحراك الذي ظهر مؤخراً في الشارع العراقي وقاد إلى الإطاحة بالحكومة العراقية وجعل ولادة حكومة جديدة أمراً عسيراً، يبدو أنه فوضى خرجت من اليد الأميركية مع وصول المحتجين إلى السفارة الأميركية في بغداد واقتحام بواباتها الرئيسة، وكان قد سبق ذلك موجة من الاستهدافات بالقذائف الصاروخية للقواعد الأميركية في العراق، الأمر الذي شكل ذريعة أميركية جاهزة للاعتداء على قوات حزب اللـه العراقية التابعة للحشد الشعبي العراقي مؤخراً، وما أبداه كيان الاحتلال الإسرائيلي ومتزعميه من فرحة عارمة لهذا الاستهداف.
هذا السيناريو الظاهر لا يمنع من التفكير بسيناريو آخر، يحيل بنا إلى التحليل من مبدأ أن اقتحام السفارة الأميركية في العراق، تلك السفارة التي ليست بالمبنى البسيط، بل هي المكان الأكبر والأكثر تحصيناً في العراق وهي المجهزة بالتحصينات والتقنيات وبآلاف الجنود والموظفين الأمنيين كما أنها تحوي على مهبط حوامات، لتكون أقرب إلى القاعدة العسكرية منها إلى أن تكون سفارة مهامها دبلوماسية فقط، وبالتالي فإن إمكانية وصول متظاهرين وبهذه الأعداد إلى السفارة يثير سيناريو آخر يقول إن ما جرى في حادثة السفارة الأميركية ببغداد هو أمر مفتعل.
إن افتعال واشنطن أو سماحها بوصول المحتجين إلى مبنى سفارتها قد يكون من ضمن خطة أميركية لتبرير نقل المزيد من آلاف الجنود الأميركيين إلى المنطقة، ويعزز هذا السيناريو بالإضافة إلى زيادة حدة الشقاق التركي الأميركي، زيادة التقارب الروسي التركي، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ أن للمناورات العسكرية الروسية الصينية بالتعاون مع إيران في الخليج العربي وبحر العرب الدور الأكبر في استعجال تنفيذ هكذا مسرحية تتيح لواشنطن تبرير نقل المزيد من القوات الأميركية إلى الشرق الأوسط، وهو القرار الذي سارعت واشنطن إلى اتخاذه مباشرة بعد اقتحام سفاراتها ببغداد.
إن المناورات التي بدت وكأنها تكتيكية إلا أنها كانت كافية لإثارة رعب واشنطن المترنحة في الشرق الأوسط، وخصوصاً أن هذه المناورات تمثل الإعلان عن بدء المرحلة الأخيرة من مراحل اضمحلال النفوذ الأميركي في المنطقة لمصلحة تنامي النفوذ الروسي، المدعوم بالنفوذ الصيني وبالدور الإقليمي الإيراني، وكأن تحذيرات صموئيل هنتغتون في كتابه صراع الحضارات تقترب من التحقق، إذ حذر الغرب من تحالف الحضارتين الصينية مع الإسلامية والتي تمثل إيران الفارسية إحدى قوامتها الرئيسة، وما يزيد الطين في المستنقع الأميركي بالشرق الأوسط بلة، هو التحالف الروسي مع الصين وإيران في هذه المنطقة وعلى مستوى النظام الدولي عموماً.
يضاف إلى ما سبق ما كشف عنه المخطط الأميركي مؤخراً عن مشروعه الجديد للمنطقة وأطلق عليه تسمية «صفقة القرن» التي تعيد رسم خرائط الشرق الأوسط وفق رؤية أميركية إسرائيلية تعطي لكيان الاحتلال ما يريد من قضيتي الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وتعيد ترتيب المنطقة عبر خلق كانتونات جديدة تساعد واشنطن في التحكم بالمنطقة عن بعد دون تكاليف عسكرية مباشرة.
مؤخراً ظهرت اتهامات عراقية لواشنطن باستنساخ «قوات سورية الديمقراطية- قسد» جديدة في وسط وغرب العراق، بدايتها من صحراء الأنبار والموصل، وإن كان الهدف الأول منها مواجهة «الحشد الشعبي» العراقي وإيجاد فواصل جيوسياسية بين العراق وإيران من جهة وبين سورية ولبنان من جهة ثانية، وخصوصاً أن رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي الأسبق دافيد بن غوريون، كان صاحب مقولة، إن الأكراد هم أفضل الأصدقاء الذين يمكن لـ«إسرائيل» أن تحلم فيهم لتعثر عليهم على أرض الواقع، وحتى في سنوات الستينيات قبل توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر زمن الرئيس أنور السادات ارتبطت تل أبيب بعلاقات وثيقة مع الأكراد من خلال حكومة بن غوريون، حيث اعتبر الأكراد الأصدقاء السريين في وسط عربي معادٍ لإسرائيل، ومن هنا تتضح الملامح الكبرى للمشروع الأميركي الإسرائيلي المسمى «صفقة القرن» إذ بدأت أميركا بإنشاء «قسد» سورية واليوم «قسد» العراق.
يبدو أن مشروع الاستنساخ الأميركي السابق قد أخفق فاتخذت واشنطن على عاتقها الاستهداف المباشر لقوات الحشد الشعبي العراقي، والتي لا تخرج عن تحقيق العملية التمهيدية لتمرير «صفقة القرن»، إلا أن المخطط الأميركي الإسرائيلي ينسف عملية السلام من جذورها.
المؤكد في كل ما سبق أن واشنطن أدركت وأيقنت وتقترب من الإقرار بأن بقاءها في سورية لن يدوم على المدى الطويل ولا حتى المتوسط وأن اقتراب تشكيل مقاومة شعبية وطنية ضدها وهو ما ظهر مؤخراً من لقاء علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني خامنئي، خلال استقباله وفداً عشائرياً من سورية في طهران، مؤشر مهم على ذلك.
على أميركا المترنحة في الشرق الأوسط أن تتجنب السقوط وأن توقن حق اليقين أن الزج بالمزيد من المؤامرات ومن القوات في المنطقة لن يحيل ترنحها ثباتاً بل سيسرّع في السقوط ذاته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن