ثقافة وفن

الرحابنة وجناح المحبة

| إسماعيل مروة

ضمن جدران تمنح الحب كانت التراتيل تتلى، فذا يصدح، وذاك يبارك، وآخر يناول، وصوت المؤمن تغلب عليه الخشية، تلك الخشية التي تداخله وهو ضمن هذا المكان المقدس والشريف، وحين يخرج منه يكون منعتقاً من كل شيء، وقد تزود بالإيمان الذي يجعله مطمئناً مرتاحاً، وتبقى راحته ملكه، وتكبر طمأنينة روحه، وهو لا يدري كيف ينشر حبه، ولا يعرف آلية توصيل ما به من إشعاع إيماني.
ماذا يقولون في الداخل؟
الخارج الغريب يسأل..!
وماذا يظنني فاعلاً؟
الخارج من القداسة يسأل!
بالأمس قال لي صديق عزيز جداً:
العيد لي، وهو ثقافتي، فارقب هذه الثقافة، ولكن لا تتقدم إلي بثقافتك لتغير ثقافتي! بالطبع لم يكن يقصدني شخصياً، فنحن أقرب مما يظن التخيل، ولكن يتحدث عن ظاهرة أن يصبح العيد ملوناً بالآخر وثقافته، وقد تضيع خصوصية الثقافة، ما حفزني للتمعن والمراجعة.
وسألت: لِمَ لا يراني متطفلاً على ثقافته؟
لِمَ لا يمانع في أن أكون شريكه دون غيري؟
وبعد طول تفكر، لم أستطع أن أردّ الأمر إلى ذاتي ونفسي، فقد لا أكون ذلك المقصود بالفهم والتسامح، ووجدت أن الأمر يتعلق بالذائقة الفنية أولاً، وبالرحابنة أولاً أيضاً.. كيف يكون ذلك؟
ليس مهماً أن يأتي أحدهم إليك ليطلع على ثقافتك وطقوسك، وليس بإمكانك أن تجعله مترقباً ومتقبلاً.
ولن يفعل الآخر من تلقاء نفسه.. فكيف يمكن أن تحدث هذه المعرفة؟
وكيف يمكن أن يتجاوز واحدنا مرحلة الترقب والمتابعة، ليدخل في القبول والمشاركة والحب؟
اعذرني صديقي، فبكل الحب أنت مخطئ
القوقعة والترقب لا يجعلانك مفروداً للآخر.
الحل ببساطة أن نجد أن الآخر مهم أيضاً، وأنه على صواب كما أنت، وأن تجد أن فهمه لك ضروري للغاية، وأن تذهب إليه، ولتظهر له أنك لست مخلوقاً غرائبياً أو مختلفاً، وبأنك لا تراه وحشاً وخصماً..!
المهم أعود إلى الذائقة الفنية والرحابنة، فالرحابنة أصحاب رسالة، ومارسوا الإعجاز الحياتي، حين عجزت المؤسسات الكهنوتية والدينية عن فعل أي أمر إيجابي!
فحتى في المناسبات الدينية، وعند النقل من الكنائس والمساجد لا يجلس الآخر ليعرف، وما تقدمه العقول هو لحالة طقسية متقدمة كثيراً، تدخل في صلب العقيدة، ويجب أن تسبقها خطوات كثيرة، وهذه الخطوات قدمها الرحابنة وفيروز، فالتراتيل والمريمات وأغنيات يسوع والقدس وبيت لحم، وطفل المغارة وأمه مريم في حالة التعاطف والبكاء، وكل ما قدمه الرحابنة مع فيروز كان عظيماً، فانتقوا ما يمكن أن يشكل مدخلاً للفهم دون الغوص في التفاصيل، وتم دمج هذه الإبداعات بأغاني العاطفة والسهل والجبل، فتسللت إلى السامع والمتابع ببراعة، وصار يسأل عن المغارة والشمعات وطفلها ومريم، وهكذا حتى صار قريباً من الدخول في الجوهر وفهمه.. بل زاد الرحابنة بالدمج بين أحمد والمسيح، ومكة والقدس.. فصارت الوشائج قربى وقادرة على تلمس الجرح المشترك، وبغياب الرحابنة عادت التراتيل إلى الانغلاق، وصارت الرحبانيات إرثاً!
المهم أن تحمل نفسك لتعرّف الآخر بما أنت عليه، ولا تنتظر أن يأتي الآخر إليك، قرون مضت والعرب بمسيحييهم ومسلميهم لم يقدموا أنفسهم للآخر بالشكل اللائق، والآخر ليس مجبراً على فهمهم، وهو الأقوى، وهو الذي لا يحتاجهم، ولا يحتاج إلى فهمهم.
شكراً للرحابنة الذين فاخروا بما هم عليه، وقدموه للمجتمع كلمة ولحناً وترتيلاً، فألصقوا الناس بطفل المغارة، وعرّفوا بألم المريمات، من العذراء إلى المجدلية.
ولنقدم أنفسنا لنكون نحن على الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن