ثقافة وفن

الصورة الخالدة بين غيفارا واليوم … على طاولة فاخرة يتباهى محدثو النعمة وينسون ما يعانيه الناس من قسوة الحرب!

| ضحى مهنا

أخبرني صديق عن صديقة عن مصدر موثوق رفيع المستوى، كما تأتي به الأخبار العاجلة بلونها الأحمر، أنه كان بالأمس في أحد المطاعم التي يصل نسبها إلى الأشراف، وذاع صيتها في البلدان. لا يذكر المصدر الرفيع المستوى إن كان هو صاحب الدعوة، لكن فيما يأتي يتبين أنه كان مدعواً، فقد عرف متأخراً أن رسم الدخول إلى المطعم ذي النسب الشريف، يتجاوز ثلاثين ألف ليرة سورية، وقد سمع أن سيدة «أنفوشة» دفعت قبل يومين مليوني ليرة سورية لعشاء أو غداء لصديقاتها. وحدثنا المصدر عبر الصديقة أن المقبلات وحدها تجاوزت الأربعين صنفاً قبل أن تنزل الأطباق الرئيسة. وتلحق بها الفاكهة والحلويات و… ولم يتأكد له من مصادر مستقلة صحة هذه الأرقام التي جعلتنا نشهق بفزع تحول سريعاً إلى غضب حزين أمام ذلك «العهر» في الوقت الذي تمر به البلاد بحرب لعينة متعددة كتعدد المقبلات في المطعم، فضجيج المعارك لم يسكت بعد، ويعلو هنا وهنالك بكاء الثكالى والأرامل والأطفال، وتتناثر أشلاء الضحايا وأطراف ممن بقوا في الحياة ينتظرون محسناً يتصدق عليهم بأطراف صناعية. ماذا يقال لمن خسروا أخلاقهم وإنسانيتهم «استحوا»؟

ومما أخبر به المصدر أنه رأى شاباً على طاولة منه قريبة يرتدي سترةً جلدية فاخرة تعلوها قطعة من فراء «المينك» وكان الطقس خريفياً دافئاً، وثمة صبية تقبع أمامه ما رأى في جمالها أحداً، وتراءى للمصدر أن الشاب كان يتأملها لحظاتٍ ثم يدور بعينيه في أرجاء المطعم، لكن مصدرنا تعجب إذ لاحظ أنهما لا يتبادلان الكلام كثيراً، كان كل منهما يحمل هاتفه من حينٍ لآخر، ولم يتأكد له إن كانا يتابعان أخبار الوطن وشجونه.. وزاد في استغرابه أن الشاب كان يجلس أمام إحدى آلهة الجمال من دون أن تلهمه قصيدة غزل واحدة، حتى إنه فكر أن يرسل له أغنية أجنبية تبدأ «الشمس تشرق وتغيب معك» كان يغنيها يوماً لحبيبته قبل أن يتزوجها، لعل ذلك الصعلوك يتحرك ويشعر بهذا الجمال المشرق، لكن عجبه تحول إلى الجميلة التي بدت أنها غير مهتمة بكلام الحب والغزل، ربما تقول في سرها إن الحب والغزل هما للغبيات في هذه الأيام، ورآها مشغولة وجليسها بالتقاط الصور لنفسيهما وأخرى للمطعم، سيرسلانها إلى من لا يهمهم الأمر، ليموتوا في حسدهم وغضبهم.
أراد المصدر أن يشرح للصديقة، فتح قوساً قائلاً: بأن لا مشكلة عنده مع المطاعم فهو من روادها، وقد وُلد كما تعرف الصديقة، وفي فمه ملعقة من ذهب، لكن هذا المطعم استفزه بأسعاره ورواده، والوطن جريح والجوع يتربص بأصحاب الملاعق الخشبية.. وهو لا يتكلم عن حسد أو «ضيقة عين» وأغلق القوس بعد هذا الاستطراد «الضروري» وظنت الصديقة أن الحديث انتهى بعد إغلاق القوس، لكن المصدر عاد إلى المطعم ذي النسب الشريف، لكأنه تذكر أمراً في خطورة ما سبق أكثر استفزازاً.. وصف لي غضبه الذي علا وكان المغص قد أخذ يشتد في أحشائه حيث نظر إلى الشاب ثانية وقد قدر أنه واحد من أثرياء الحرب الذين نبقوا من تحت الأرض على مساحة الوطن كله كما هي الحال في زمن الحروب في البلدان كلها. رآه قد أخرج سيجاراً ثخيناً راح يدخنه من دون لذة، فمن أين لهذا «النوفو ريش» أن يعرف أصول تدخين السيجار، حتى إنه لا يعرف كيف يمسكه بأصابعه الغليظة وراح يكيل الشتائم وما عرفتْه الصديقة إلا مهذباً «ابن بيت بيوت» وراحت الجميلة «يتابع المصدر»، تلتقط له صوراً متلاحقة وهي تبتسم لحظها السعيد بعد أن استجاب اللـه لدعاء أمها في ليلة القدر وكان الشاب يتحرك على كرسيه في حركة لا تهدأ، تارةً يجلس في شكلٍ جانبي وأخرى يرجع مستنداً إلى ظهر الكرسي معتداً بحاله التي أوصلته إلى هذا المطعم الشريف، كان ينظر حواليه ويقول: «هل رأيتموني»؟ ليعود إلى الجميلة ويستزيدها من الصور، هنا. توقف المصدر قليلاً وأقسم بأنه كان يوشك على تمزيق قميصه الثمين فقد أغاظه مدخن السيجار وراح يفتش في ذاكرته ويبحث، فوقع على الملك فاروق واللورد تشرشل، وكان كلاهما مولعاً بالسيجار، وتمنى مصدرنا لو يصرخ في وجه الصعلوك «النوفو ريش» ليتعلم منهما أين ومتى وكيف يدخن السيجار؟

أعترف بأن المصدر الموثوق استطاع أن يدفعنا إلى ذلك الغيظ، مما رآه في المطعم ورواده، لكنه أغاظني بدوره، إذ لم يتذكر من مدخني السيجار سوى الملك فاروق الماجن والفاجر واللورد تشرشل عدو الشعوب البعيدة، وقد رأيت للأخير صورة التقطها مؤرخ بدا تشرشل فيها يمسك بيدٍ كأس الويسكي وباليد الأخرى قلماً غليظاً بعد أن حشر في زاوية فمه سيجاراً.. كان ينحني على خرائط وهو يرسم بقلمه الحدود بين الدول بقسوة وعدوانية متوحشة وهو القائل «إذا ماتت العرب ماتت الخيانة».

لماذا نسيت أيها المصدر الثقة جيفارا؟ كان جيفارا يدخن السيجار طوال الوقت كما يفعل فقراء أميركا اللاتينية وأغنياؤها مع اختلاف نقاوة السيجار. جيفارا هذا الذي غاب عنك أيها العزيز، كان يتنقل بين البلدان التي أحبها كبلاده، يذهب إلى البسطاء في حقولهم ومعاملهم ومستشفياتهم المتواضعة يعمل ويأكل معهم ويدخن السيجار، يبسط معهم الحديث وهو يدفعهم إلى المدارس ليتعلموا العلوم كلها وخاصة التكنولوجية، فقد عرف أهميتها، وكان يعلم الأهل كيف يربون أولادهم «كيف يفكرون لا بِمَ يفكرون» وكان يدخن السيجار، ثم كان يخرج بهم إلى المرح والغناء للأرض والحب والغد الجميل بعد أن يرحل الطغيان والفقر والجهل، يرقص ويغازل الجميلات وهو يدخن السيجار.

لا أكاد أرى السيجار أو أشم رائحته حتى أتذكر ذلك الشجاع الوسيم «جيفارا».
وتتردد في خاطري أغنية غناها له المخلصون كانت انتشرت كالعطر، فسببت الذعر لأعدائه حتى بعد رحيله، وكان قد اصطاده أحد رعاة البقر بعد مطاردة منهكة، كما يصطادون بحبالهم ثوراً هارباً أو حصاناً برياً.

كم من ثقافة نحتاج إليها وخاصة في هذه الأيام غير ثقافة الطعام في المطاعم واللباس وتدخين السيجار، ثقافة لا تبغي تغييراً في طبقات الأرض، فهذه لن تغيرها الزلازل مهما بلغت درجتها على مقياس ريختر، كما لم تغيرها الأديان والثورات أو الفنون والآداب، فالأرض ما كانت يوماً مدورة ولن تكون.

لكن التكافل والتضامن يخففان بالتأكيد من وطأة القهر والحرمان، حتى في عصر الجاهلية التي ذمها الكثيرون من دون وجه حق، كان ثمة تضامن رحيم بعد قحط أو غزو.

أعود ثانية إلى «جيفارا» إذ قال: إن على البشر أن يتحلوا بإنسانية كبيرة وأن يؤمنوا بالعدالة والحق. وقد ذهب كثيرون إلى ما ذهب إليه جيفارا، لكنني وقفت عنده لأن المصدر الموثوق صب غيظه على مدخن السيجار. تذكروا معي محمود درويش حين قال: «فكروا بالحمام حين تأكلون، وحين تعودون إلى بيوتكم فكروا في…».
الحياة علاقات بين البشر، تجمع بينهم الإنسانية وحدها وإلا صارت الحياة مستحيلة، لن يبقى من صور المطعم ورواده سوى النسيان فهم قلة على أي حال، ولكن ثمة آخرون كثيرون في هذا الوطن المعذب، ملأت قلوبهم الرحمة يطعمون إخوتهم المحتاجين مما يأكلون، ويمسكون بأيديهم الضعيفة المنهكة وإلا ما كان للعيش أن يستمر على ضيقه، وقد قالوا «لو خلت خربت».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن