قضايا وآراء

سليماني: هل تتساوى يد سيفها كان لك.. بيدٍ سيفها أثكلك؟

| فارس الجيرودي

«مَن يمتنع عن تحليل إستراتيجيات الاستعمار المهيمن بصفته نقطة الانطلاق الضرورية لتقويم دور مختلف التيارات السياسة العاملة في الساحة، مَن يرى أن هذا النقاش «خارج الموضوع» لا يمكن أن يقدّم تحليلاً صحيحاً وتقويماً مفيداً لمختلف الحلول المطروحة»
سمير أمين «مجلة الطريق، العدد الخامس، أيلول- تشرين، 2002»
الاقتباس السابق لسمير أمين مناسب تماماً لمحاججة قسم من النخب العربية المثقفة من غير المتمولين بالبترودولار الخليجي، والذين رغم ذلك اتخذوا موقفاً مخزياً من الحدث الكبير الذي هز منطقتنا منذ يومين والمتمثل بإقدام القوات الأميركية على اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق، الرجل الذي أدى دوراً استراتيجياً كبيراً إلى جانب قادة آخرين خلال السنوات الماضية في إسقاط ما حضّرته مراكز الأبحاث الأميركية من مخططات تستهدف أمن شعوب منطقتنا وحاضرها ومستقبلها.
فبعض أولئك المثقفين تذرع بإيديولوجية الرجل المختلفة عما يعتنقونه لتبرير عدم اتخاذهم موقفاً قاطعاً من الاغتيال، والبعض الآخر تساءل عن سبب وجود سليماني في العراق، وعن ضرورة تحييد العراق عما أسموه بالصراع الأميركي الإيراني، محذرين من تحوله إلى ساحة لتصفية الحسابات، وكأن القواعد العسكرية الأميركية التي ترقط أرض بلاد الرافدين منذ عام 2003 منشآتٌ صناعية أو معالمُ سياحية أو مدنٌ أثرية، وليست مراكز للتآمر على أمن شعوب المنطقة، وخصوصاً على أمن الدولتين اللتين تضع الولايات المتحدة منذ عقود ثقلها من أجل إخضاعهما إيران الإسلامية والجمهورية العربية السورية.
فمن المفيد في هذا السياق التذكير بأن تنظيم داعش الإرهابي الذي أوغل في دماء أبناء الشام والعراق، وعاث خراباً في العمران والحضارة في البلدين، وألحق بسمعة الثقافة العربية الإسلامية تشويهاً غير مسبوق، إنما انبعث من رحم الوجود العسكري والاستخباراتي الأميركي في بلاد الرافدين، بل إن زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي نفسه كان مسجوناً في السجون الأميركية في العراق قبل أن يطلق سراحه، فهل نلوم سليماني لأنه أفسد خلال السنوات الماضية التعايش السلمي بين العراقيين والاحتلال الأميركي، وذلك من خلال دعمه لفصائل المقاومة العراقية التي مارست بعد العام 2003 استنزافاً طويلاً ومرهقاً للقوات الأميركية وحليفتها البريطانية في بغداد وجنوب العراق، تكامل مع الاستنزاف الذي مارسته المقاومة المدعومة من سورية في منطقة غرب العراق، ما أجبر قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال ديفيد بترايوس عام 2011 على الاتصال بسليماني طالباً طريقاً أمناً لسحب 250 ألف جندي أميركي ومثلهم من متعاقدي بلاك ووتر من العراق إلى الكويت، و«بعد ظهور داعش عاد نحو 20 ألف أميركي إلى العراق بصفة مستشارين أمنيين».
أم هل نلوم الرجل لأنه وقف مع العراقيين بكل طوائفهم في لحظة من لحظات التاريخ المصيرية عندما كانت داعش على أعتاب أربيل وبغداد وكربلاء، بينما الحليف المفترض للحكومة العراقية، الولايات المتحدة، يمتنع عن تسليم جيشها أسلحة تم دفع ثمنها من قوت العراقيين ولقمة عيشهم؟
في الواقع الشيء غير القانوني ليس وجود سليماني في زيارة لبغداد، وليس دعمه للمقاومين العراقيين، بل إن الأمر الوحيد غير الشرعي واللا قانوني هنا هو الوجود الأميركي في العراق على بعد 11500 كيلومتر من أقرب أرض أميركية بما يمثله ذلك من تهديد للجميع في المنطقة، فإخراج هذه القواعد الأميركية ليس مصلحة إقليمية فقط، حتى يتبنى العراقيون سياسة النأي بالنفس بعيداً عن المحاور فينجوا، بل هو مصلحة وطنية لمنع بقاء هذا البلد ميداناً أميركياً للتآمر، وهو أيضاً شرط لازم من أجل قيام دولة عراقية قوية ذات سيادة، يعتبر صناع القرار في واشنطن انبعاثها خطراً استراتيجياً على ربيبتهم إسرائيل، لذلك يعملون بكل السبل من أجل إبقائها أسيرة الفوضى والانقسام والفساد.
قد نتفهم موقف قسم كبير من عامة الشعوب العربية من سليماني وذلك في زمن ينقسم فيه أكثر من 80 إلى 90 بالمئة من الإعلام العربي بين متمول بمال الغاز القطري أو النفط السعودي، فهؤلاء لم يقرؤوا ما كتبه برنارد لويس وزمرته من المخططين الإستراتيجيين الأميركيين الصهاينة من خطط لإعادة تقسيم منطقتنا إلى إمارات تكفيرية متقاتلة يستعين بعضها بإسرائيل ضد بعضها الآخر، وهو المخطط الذي ساهم سليماني في سورية والعراق إلى جانب قادة آخرين في محور المقاومة في إسقاطه.
كما أن الأكثرية من الشعوب العربية وبسبب السيطرة التي يفرضها البترودولار على العقل العربي لم تسمع أيضاً بما بذله الرجل من جهود في طول المنطقة وعرضها من أجل تهيئة البيئة الإقليمية لمعركة تفكيك الكيان الصهيوني، ولم يسمعوا بـ«الأسلحة الإستراتيجية الكاسرة للتوازن التي عمل على إدخالها إلى قطاع غزة» وذلك حسب تعبير أبو عبيدة المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام، إلى درجة أن رئيس حكومة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عجز منذ أشهر ورغم محاولته أكثر من مرة عن إقامة مهرجان انتخابي في عسقلان التي كانت تقصف من غزة في كل مرة يزورها نتنياهو فيضطر حراسه إلى تهريبه أمام كاميرات التلفزيون.
لكن ماذا عن مثقف عربي يعرف عن عقرب لدغ فلسطين منذ نحو قرن لكنه يمارس الجهل الوضيع بخريطة الصراع وبخطر المشروع الصهيو-أميركي؟ فعلاً أنه أمر محزن أن تجد نفسك في كل مرة مطّراً لتوضيح أمور من المفترض أن تكون بدهيات، فكما يقول الأديب المصري أمل دنقل: هل تتساوى يد سيفها كان لك.. بيدٍ سيفها أثكلك؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن