ثقافة وفن

النبع والتربــة

| د. اسكندر لوقـا

ليس انتقاصاً من قدر الإنسان العادي أن يقال إنه أدنى مرتبة من الإنسان المبدع سواء في مجال الأدب أم الفن أو العلم، ذلك لأن الإنسان العادي، مثله مثل الآخر أيضاً يحتضن في أعماقه جملة من العواطف والمشاعر المحركة التي تصنع المحبة والكراهية، الإخلاص والخيانة، الضعف والقوة وما شابه ذلك.
وفي سياق التفاوت بين القدرة على العطاء أو الإبداع الذي يميز إنساناً عن سواه، تتجمع الطاقات المبدعة الفردية والجماعية معاً لتؤلف كتلة تعمل من أجل إشادة البناء الحضاري للبشرية، في حين تتجمع الطاقات العادية الأخرى لتلعب دوراً من نوع يختلف تماماً هو دور الامتصاص، والفارق بين النوعين كالفارق بين النبع الذي ينفجر من جوف الأرض وبين التربة التي تمتص ذراته، كما بين الرسام الذي يبدع لوحة وبين المتفرج الذي يشاهد جزئياتها ويكتفي بذلك.
إن معاناة المبدع في حقل المشاركة في بناء الحضارة تستنزف قواه من دون شك. وليست المعاناة في هذا الصدد كالمعاناة في القيام بالأعمال اليدوية العادية التي تسهم في تلبية كامل أو بعض الحاجات اليومية للناس، لأن الفارق بين النوعين كالفارق بين الشمعة التي تحترق وبين الذي يستفيد من ضوئها، بين قطعة الخشب التي تذوب وبين اليد التي تواجه الدفء في ليلة باردة. في الحالة الأولى يضحي صاحب العطاء وفي الحالة الثانية يستفيد الآخر من تضحية سواه، فالأول بذلك يحيا الحياة باذلاً نفسه، كل نفسه، والثاني يحيا بعض الحياة، كالمسافر في قطار لا يرى إلا ما تسمح به النافذة ولذلك ليس كل إنسان في وسعه الارتفاع إلى مستوى قضية، والحضارة التي يتسابق العلماء والمفكرون والفنانون لبنائها اليوم قضية، ومن أكثر القضايا أهمية في غمرة التهديدات التي تواجهها البشرية من كل صوب، وأن الدفاع عنها يتطلب اتخاذ موقف، وهذا الموقف لا يتاح لكل إنسان اتخاذه إلا إذا كان هدفه الدفاع عن قيمة تستحق أن يبذل الغالي والرخيص من أجلها. وكما نعلم فعلى صعيد الفرد يتجلى الموقف في سياق العمل المبدع وعلى صعيد الجماعة يتجلى في سعيها للإفادة من عطاء كهذا، مع العلم أن ليس كل عطاء يندرج في باب الإبداع، إلا إذا أصابت تبعاته كل من يعيش زمانه، ولا بد أن يكون عمل كهذا حينئذ عملاً خلاقاً يجعل من حاضر الإنسان ومستقبله قضية تستحق كل الجهد من أجل أن تكون مصدر سعادته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن