قضايا وآراء

عام 2019 السوري

| عبد المنعم علي عيسى

يمكن القول: إن عام الأزمة السورية الثامن الذي مثله العام 2019 المنقضي قبل أيام قليلة، كان انقشاعياً في العديد من ملفاته التي بدت وكأنها ماضية نحو انفراجاتها، على الرغم من بقاء البعض منها ضبابياً، وتلك حالة فرضتها التحولات الحاصلة في الأهداف، وكذا الأدوات الموصلة لها، عند الأميركيين بالدرجة الأولى وبدرجة أقل عند الأوروبيين الذين أظهروا ميلاً أكبر للتساوق مع موسكو التي تغذّ خطاها حثيثا لإنهاء الأزمة السورية قبيل أن تكمل عشريتها السوداء.
شهد ملف إدلب منذ مطلع العام المنصرم تصعيداً كان من الواضح أنه ماض نحو المزيد منه انطلاقاً من حالة التفلت التركي تجاه مستلزمات اتفاق سوتشي الروسي التركي الذي كان قد أبرم في أيلول من العام 2018، وفي هذا السياق الأخير كان إطلاق الجيش السوري لعمليته العسكرية في شباط 2019 التي سرعان ما استطاعت عوامل عدة إقليمية ودولية كبح جماحها بفعل ميل واضح لدى أطراف عدة فاعلة في الأزمة السورية نحو ترجيح كفة الحل السياسي على كفة الحسم العسكري الذي ولا شك ستكون له حمولاته الكبرى على التسوية السورية التي كان جنينها يرتسم خلال ربيع وصيف هذا العام الأخير.
عادت السخونة من جديد لمعركة إدلب في أواخر آب المنصرم ومن خلال قفزة الجيش في هذه المرحلة التي استمرت خلال شهر أيلول أيضاً كانت مناطق عدة في ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي قد عادت إلى سيادة الدولة السورية، إلا أن انطلاقة 12 كانون الأول الماضي وما تلاها، التي لا تزال مستمرة حتى الآن، يمكن النظر إليها على أنها رسم أكيد لحدود اتفاق سوتشي بالنار، وخلالها، أي خلال تلك الاندفاعة، كان أكثر ما يثير الانتباه هو أن موسكو كانت قد أدارت ظهرها لمواقف أنقرة المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار، ناهيك عن أنها لم تعر كثير اهتمام لتقاطر الوفود التركية التي أمت موسكو بعيد وصول الجيش إلى مشارف مدينة معرة النعمان، والأهم هو أن موسكو اعتبرت آخر طروحات تلك الوفود، التي قالت بقبول أنقرة المساعدة في فتح الطريق الدولي «ام 5» في مقابل تأجيل فتح نظيره «ام 4» للربيع المقبل، هو طرح متأخر ولا يتناسب مع المتغيرات الحاصلة في ملفي الشمال والشمال الشرقي السوري.
كان خريف العام 2019 تحولياً أيضاً بدرجة قصوى في ملف شرق الفرات، حيث سيشهد هذا الأخير خلاله اتفاقين كانت أنقرة طرفاً مشتركاً فيهما، على حين كان طرفاهما الآخران موسكو وواشنطن، وما بينهما كانت العملية العسكرية التركية المسماة «نبع السلام»، والملاحظ في هذا السياق السابق هو أن موسكو قد استطاعت رسم خطوط للتمدد التركي ومنع تقدمه خارج حدود تلك العملية، وفي المقابل كانت هناك توسعة لمناطق سيطرة الجيش بنسبة وصلت إلى 35 بالمئة من مناطق سيطرة «قوات سورية الديمقراطية» السابقة، وبالنتيجة كانت نهاية العام تسجل سيطرة الجيش على ما يقرب من 72 بالمئة من الجغرافيا السورية.
كان لتبدل خرائط السيطرة في الحالتين السابقتين أثر كبير في الصورة التي تشكلت للحرب السورية في الخارج، وكذا أثر كبير في طريقة تعاطي الأطراف الإقليمية والدولية معها، وفي خضم تلك المتغيرات سعت كل من دمشق وموسكو إلى ترجمة كل تلك الوقائع الميدانية إلى فعل استثمار سياسي، وفي ذلك يمكن لحظ حال من التناغم قصوى ما بين القرارين الروسي والسوري إبان تعاطيهما في ذلك الفعل، ظهر ذلك في منحنيات عديدة، ففي ملف «اللجنة الدستورية» كانت موسكو أقرب إلى المفهوم السوري في المعالجة، وهي رفضت تحديد «برنامج زمني» لمهام تلك اللجنة، إلا أن التقارب الأهم الذي يمكن تسجيله هنا يكمن في الفيتو الروسي الصيني رقم 14 في الأزمة السورية، وهو الفيتو الذي استخدمته كل من بكين وموسكو في 20 من كانون الأول الماضي ضد مشروع غربي، وهو جاء ليمنع تمرير إيصال «المساعدات الإنسانية» عبر الحدود، ولكي تتضح الصورة هنا جلياً أو لكيلا يكون هناك لبس في فهم دوافع وخلفيات الفيتو يمكن الإشارة إلى أن موسكو وبكين كانتا قد طرحتا مشروعاً معدلاً، لم يحظ هو الآخر بالقبول الغربي، وهو يقضي بحصر إدخال المساعدات الإنسانية المراد إدخالها إلى سورية بالحكومة الشرعية القائمة في البلاد، ومن الممكن هنا بسهولة لمس المرامي الروسية الساعية إلى تقوية مركزية الحكومة في دمشق من جهة، ومن جهة أخرى إجبار «الخصوم» على الاعتراف بالواقع الجديد الذي فرضته التطورات السابقة.
عام 2019 السوري كان قد حمل تحديات أخرى مهمة لا يجب إغفالها، وهي مؤثرة بقوة في المسألة السورية من نوع إعلان الانتصار على «داعش» في الباغوز في 23 آذار الماضي، والحدث على الرغم من أنه كان إيجابياً إلا أن منعكساته على قوات «قسد» كانت قد جعلت منه رماديا من حيث النتيجة، فالحدث كان قد رسخ في هذه الأخيرة داء «المحافظة السياسية» المصابة به أصلاً من قبل، والذي يمكن اختصاره بمقولة «إما كل شيء أو لا شيء»، وهو وضع لا يزال يرخي بظلاله على علاقة دمشق مع قيادات «قسد» التي تبدو وكأن الزمن قد توقف عندها في الباغوز حتى لم يعد بالإمكان متابعة «الشريط الإخباري» الذي يحوي أحداث التشرينين، وهو، أي العام 2019، كان قد حمل أيضاً بعد يومين من هذا التاريخ الأخير توقيع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على وثيقة تعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، على الرغم من كل ذلك فإن ملفي إدلب وشرق الفرات سيكونان هما الأهم، سواء أكان ذلك بالنسبة للتسوية السورية، أم بالنسبة للمعادلات الإقليمية التي ستنشأ عن الحلول التي سيمضي إليهما ذانك الملفان، فتحرير إدلب سيؤدي إلى انتزاع ورقة تفاوضية قوية ستصبح بيد دمشق، بل سيؤدي أيضاً إلى تهميش أدوار إقليمية لدول عدة في التسوية السورية، ومعه، أي مع تحرير إدلب، ستنتهي أنشودة القرار 2254 الذي جاء في ظروف ومعادلات ستكون قد تغيرت كلياً عند حدوث الفعل، أما في ملف شرق الفرات فإن قسد تبدو مدركة جيداً لحتمية الحوار مع دمشق الذي تفرضه كل الوقائع وكل المعطيات، لكن ما لا تدركه هذي الأخيرة، كما يبدو، هو أن عامل الزمن لا يلعب في مصلحتها فالأرصدة ماضية بشكل حثيث في التآكل، أما الاحتكاكات العسكرية، أي احتكاكات قسد، المفتعلة بشكل واضح مع القوات الروسية فإنها لن تفضي إلا إلى مزيد من هذا الفعل الأخير.
كثير من تباشير العام 2020 توحي بالتفاؤل لدى السوريين على صعيد تنامي الآمال بالخلاص من حرب أثخنت في كل شبر من الأرض، وكل سنتيمتر من الجسد، ولربما كانت أهم تلك التباشير، التي ولا شك ستكون لها منعكسات مهمة على الذات السورية بالتأكيد، هي تلك التقارير التي تتراكم يوماً بعد يوم والتي تشير إلى نقل «ثوار الحرية» لبندقيتهم من الكتف السورية إلى الكتف الليبية، بعدما انتهت كما يبدو مهام نشر الحرية والديمقراطية في الربوع السورية فكان لا بد من نشرها في نظيرتها الليبية!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن