قضايا وآراء

العبث الأميركي وتغيّر المقاربات الإستراتيجية

| محمد نادر العمري

لا يمكن وصف السلوك العدواني الأميركي والمتمثل باغتيال قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، بأنه مجرد عملية عدوانية تكتيكية تصب في إطار الصراع المضبوط مع إيران، بل هو سلوك أقل بقليل من إعلان الحرب وأكثر من مجرد اغتيال، فالإجماع الحاصل عن مخاطر ذلك والترقب من قبل النخب السياسية الإقليمية والدولية والحراك الدبلوماسي على مستوى هذين الصعيدين فضلاً عن التهديد باللجوء للقوة العسكرية، وضع المجتمع الدولي على حافة الهاوية وأدخله مرحلة حبس الأنفاس، ليؤكد بأن هذا السلوك هو عبث بقواعد الاشتباك وموازين القوى وتخطي لكل الخطوط الحمراء.
لذلك وصف بأنه الخطأ الإستراتيجي الأكبر لسياسة البيت الأبيض الخارجية وإدارتها تجاه النظام الإقليمي بالشرق الأوسط، وباعتراف المسؤولين الغربيين قبل الإقليميين والأميركيين قبل الأوروبيين، وهذا الخطأ الإستراتيجي يمكن استنتاجه بمحورين أساسيين:
– الأول دوافع وأهداف واشنطن من هذا التصعيد العبثي؟
– الثاني نتائج وأثر ذلك على شكل الصراع القادم وأي السيناريوهات هي الأقرب؟
بالنسبة للشق الأول والمتضمن دوافع واشنطن من اغتيال سليماني يمكن استنتاجها في مروحة الأهداف الداخلية والخارجية على حدٍ سواء:
1- من يلاحظ تبجّح تصريحات الرئيس ترامب بأنه هو الذي أعطى الأوامر لتنفيذ العملية، كأنه يبرز نفسه داخل وخارج الولايات المتحدة بأنه «بطل قومي وعالمي» قام بإنقاذ العالم وأميركا من خطر «ما يخطط له الإرهابيون» وفق وصفه لتبرير هذا السلوك، فضلاً عن استثمار ذلك داخلياً لزيادة مؤيديه على مستوى الناخبين الأميركيين من خلال ادعائه أن الشهيد سليماني كان عائداً من سورية للعراق لاستهداف الجنود والمصالح الأميركية، ومن جانب آخر فإنه أراد توجيه صفعة للديمقراطيين الذين عزلوه في مجلس النواب من خلال تقديمه مقاربة مفادها «مصالح أميركا العليا يقررها الرئيس دون العودة إلى باقي المؤسسات».
2- عدم قدرة واشنطن على استهداف إيران الدولة عسكرياً في ظل امتلاك الأخيرة قدرات ردعية، ووجود أصدقاء لها دولياً تربطهم بها مصالح مشتركة إستراتيجياً ظهرت مؤخراً في مناورة الحزام البحري (روسيا والصين) فضلاً عن حلفاء طهران المؤثرين من دول وقوى في محور المقاومة، وبالتالي اعتقد ترامب بأن اغتيال قائد فيلق القدس – بما تمثله هذه المؤسسة عسكرياً في داخل وخارج الخريطة الجغرافية الإيرانية- سيؤدي إلى ردع إيران وانهيار معنوياتها وتغير موقفها وقبولها بالجلوس على طاولة المباحثات دون رد أو برد ضعيف، انطلاقاً من اعتقاد واشنطن أن طهران أهُلكت نتيجة العقوبات الاقتصادية ولا تستطيع القيام بعمل عسكري كبير قد يؤدي لحرب مباشرة.
3- استرضاء الجانب الإسرائيلي وإنقاذ نتنياهو من مأزقه الداخلي من خلال هذه العملية، ولاسيما أن الشهيد قاسم سليماني يعتبر إسرائيلياً عراب ومهندس الخطر المهدد بإزالة الكيان، عبر دوره التنسيقي والداعم لحركات المقاومة وخاصة في غزة والجنوب اللبناني واليمن والجولان المحتل، وخاصة أن إخفاق إسرائيل في محاولة اغتيال الشهيد قاسم بالتعاون مع أحد أجهزة الاستخبارات الخليجية في مراسم عاشوراء 2019، وضعها في خشية عدم تحملها للثأر في حال عادت الكرة وحدها وهي اليوم تضغط داخل واشنطن لأن تقود الأخيرة عدواناً كبيراً على إيران لضمان تقليم أظفار طهران على حد زعمها وتقليص نفوذها التهديدي على مستوى المنطقة وخاصة إن أقدمت إيران على تنفيذ وعدها بتوجيه ضربة مؤلمة ضد أميركا.
– هذه الدوافع المشتركة أميركياً وإسرائيلياً تضع المنطقة أمام جملة من السيناريوهات الخطيرة، والمرتبطة بعاملين رئيسين وهما: الرد أو الثأر من حيث الحجم والأسلوب والمكان، ومدى قدرة واشنطن على استيعاب الرد وابتلاعه أو القيام برد مضاد دون حسبان للتداعيات الناجمة عن ذلك.
فجميع المؤشرات والمعطيات المتوفرة من تصريحات المسؤولين الإيرانيين والمسارعة الأميركية لإغراء طهران بعد جريمة الاغتيال ليكون الرد غير مؤثر، تؤكد أن الرد هو حتمي وسيكون على مستويين آنياً وإستراتيجياً وفي أكثر من جبهة (إيران ومحور المقاومة) ولن يقتصر على الرد العسكري فقط.
والدليل على ذلك يكمن في مسارعة القيادة الإيرانية لتعيين خليفة للفريق سليماني، والاجتماع المطول لمجلس الأمن القومي وبحضور المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي الأمر الذي يشير أن بنك الأهداف تم تحديده وحصلت على مباركة وموافقة المرشد نظراً لحساسيتها ودراسة السيناريوهات المترتبة عن ذلك سواء كان الثأر استهداف نقطة انطلاق الطائرة التي قامت بعملية الاغتيال أم إحدى قواعد أميركا الكبرى في المنطقة أم أكبر بوارجها في مياه الخليج ضمن الأسطول الخامس… إلخ، وقد لا يقتصر الرد بعمل عسكري تقليدي بل قد يترافق مع حرب سيبيرية.
أما سياسياً فإن مقتل سليماني قد دك البسمار الأخير في نعش المفاوضات الأميركية الإيرانية وتجميد أو تعليق العمل بالاتفاق النووي على الأقل في عهد إدارة ترامب، وإعلان الحكومة الإيرانية رفع القيود عن عملياتها النووية بما فيها قدرات التخصيب، ونسبته وكمية المواد المخصبة فضلاً عن أن البحث والتطوير يأتي في هذا الإطار.
إلى جانب الثأر الإيراني من المؤكد أن هناك رداً في جبهات المقاومة الأخرى وهو ما أكده الأمين العام لحزب الله في كلمته التأبينية للشهيدين سليماني والمهندس باعتبار أن الثاني من كانون الثاني 2020 هو تاريخ فاصل لبداية مرحلة جديدة وتاريخ جديد لكل المنطقة وأن الشهيد سليماني ليس شأناً إيرانياً بحتاً، هذا يضع المنطقة على صفيح ساخن وكل الجبهات قابلة للانفجار.
والرد من محور المقاومة برز بداية من العراق سياسياً من خلال اتخاذ مجلس النواب قرراً بوقف العمل بالاتفاق الأمني مع أميركا ومطالبة القوات الأجنبية بضرورة الخروج، وهذا الإجراء السياسي يمهد لمقاومة عسكرية مؤكدة انطلاقاً من سببين: الأول أن جريمة الاغتيال وقعت على الأرض العراقية، والثاني يكمن في رفض أميركي بالخروج تحت ذرائع تتعلق بعدم إلزامية القرار أو للاستمرار بقتال داعش أو عدم القدرة على ذلك لوجستياً أو عبر إحراج الحكومة العراقية بعد مطلب ترامب تكلفة بناء القواعد مقابل الخروج، إلى جانب ذلك من المحتمل أن تلجأ واشنطن إلى تصعيد الموقف والعبث في العراق وسورية ولبنان على حدٍ سواء، بالاستعانة بتنظيم داعش أو حكومة إقليم كردستان أو ميليشيات قسد أو عرقلة تشكيل الحكومة اللبنانية.
كما أن تذكير نصر الله بالعمليات الاستشهادية التي أخرجت الجيش الأميركي بشكل مذل، يحمل الكثير من الدلالات أبرزها يتمثل في إعادة نموذج عام 1982 في حال أرسلت واشنطن قوات مارينزها للبنان.
اللافت في الأحداث والمواقف التي شهدتها وتشهدها جريمة الاغتيال موقفان هامان من شأنهما تحديد معالم الاشتباك القادمة وما ينجم عنهما من تغير موازين القوى:
الأول هو موقف روسيا الاتحادية الذي لم يدع وللمرة الأولى خلال عقود لضرورة ضبط النفس في بياني الدفاع والخارجية، وهذا يعني أن موسكو من مصلحتها قيام إيران بالرد وتأزيم الوضع الأميركي في المنطقة لاعتبارات تتعلق بالنفوذ وقيام واشنطن بتعقيد المشهد في مسارات الحلول بالمنطقة، دون أن يكون هذا الرد سبباً في نشوب حرب كبرى.
الثاني هو ما عبَّر عنه الأمين العام لحزب الله من انتقال محور المقاومة من السياسة الدفاعية لنظيرتها الهجومية في استهداف الوجود الأميركي، وهي الرسالة الأبرز والأهم التي سيكون وقعها على الداخل الإسرائيلي قبل الأميركي، ومن شأنه تغير المقاربات الإستراتيجية فإدارة ترامب هي التي خفضت سقف تصريحاتها من التهديد بتغير النظام الإيراني ومن ثم تعديل سلوكه وصولاً لتصريح ترامب الأخير بالقول إنه لا يريد تغيير النظام، في حين أن المقاومة حددت إستراتيجيتها باستغلال الخطأ الإستراتيجي الأكبر لواشنطن في غرب آسيا، وفي انتظار تطبيق وعودها التي صدقت بها سابقاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن