ثقافة وفن

«تجدّد ماركس» لاستعادة الفاعلية في الحياة … الماركسيّة التغييريّة لم تنتهِ بانتهاء النموذج السوفييتي

| سوسن صيداوي

«الماركسية هي فلسفة تغييرية، ولدت مواكبة لحركات العدل الاجتماعي في القرن التاسع عشر، وموازية لفلسفات عصرها الكبرى ومتفاعلة معها. ولكنها تميّزت عنها بوضوح روحها الثورية وبُعدها التغييري. وبهذا كانت مؤهلة أكثر من سواها لأن تنغمس في الحركة الكفاحية، ولهذا أيضاً ارتبطت شيئاً فشيئاً بالسياسة، واندرج بين حامليها سياسيون تفوقت لديهم خصائص السياسة وصفات السياسي على خصائص الفلسفة وصفات رجالها». بهذه العبارة تقدّم الباحث عطية مسوح في دراسته التي جاءت تحت عنوان(تجدّد الماركسية) والصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، بالحجم الوسط وبواقع مئة وخمسين صفحة، مفهرساً تحت ثلاثة فصول. ولإطلاعكم أكثر حول هذه الدراسة سنضيء على بعض المفاصل.

في الطرح

يأتي هذا الكتاب في محاولة من مؤلفه للمساهمة في القراءة الجديدة للماركسية، وفي تجدّد ماركس في ظروف القرن الحادي والعشرين، من متابعة مسوح في دراسته لما بدأه في كتاب (الماركسية من فلسفة للتغيير إلى فلسفة للتبرير) الذي صدرت طبعته الأولى عام1994، وطبعته الرابعة عام2012، وأيضاً متابعاً لما ورد في كتاب (الماركسية وأسئلة العصر) الذي صدرت طبعته الأولى عام1999 والثانية عام2012، وللكثير من الأبحاث والمقالات التي نشرها الباحث في الوسائل الإعلامية العديدة. ونتوقف هنا بضرورة التفصيل بأن الكتاب (تجدّد ماركس)، كما أسلفنا مقسّم إلى ثلاثة فصول: يهدف الفصل الأول إلى توسيع دلالة مصطلحي الفكر الاشتراكي والفكر الماركسي، بهدف الخروج من الانعزالية وضيق الأفق الفكري الذي أصاب الماركسيين على امتداد القرن العشرين. في حين يحاول الفصل الثاني وضع اليد على جذر الأفكار والنظريات غير الديمقراطية في فلسفة ماركس التي هي- كما يرى الباحث- ديمقراطية منطلقاً وهدفاً، بغية استبعاد ذلك الجذر واستكمال السياق الديمقراطي لهذه الفلسفة. أما الفصل الثالث فهو يتضمن رؤية جديدة للثورة البلشفية من خلال الأفكار التي تضمنها الفصلان الأول والثاني، وأساس الفصل الثالث بحسب مسوح «هو بحث قدمته لندوة (ثورة والعالم العربي) التي عُقدت في تونس بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للثورة البلشفية، بدعوة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة (منوبة) التونسية، وأؤكد أن كل الأفكار التي أطرحها في هذا الكتاب هي اجتهادات مقدمة لموائد الحوار، الذي يُغني ويدقق ويؤكد ويبطل، أطرحها بعيداً عن وهم اليقين، وخرافة الثوابت، فما تثبت صحته اليوم قد تبطله معطيات الغد، والفكرة التي ترفضها اليوم قد تُقبل يوماً ما».

فلسفة ماركس لم تنتهِ

تحت هذا العنوان شرح باحثنا بعبارات تعبّر عن يأس بعض-الباحثين والمثقفين-ممن كانوا مفعمين بالحماسة للاشتراكية والماركسية، حيث أحبط انهيار التجربة السوفييتية حماستهم وأصابهم بارتباك فكري عجزوا معه عن تلمّس عوامل الانهيار التي تكمن في التجربة المنهارة ذاتها، وهي عوامل-بحسب الباحث عطية مسوح- تبدأ من قراءة البلاشفة غير الدقيقة للواقع الروسي في فترة قيامهم بثورتهم، وصولاً إلى طبيعة النظام السوفييتي الاستبدادية التي أبعدت الشعب عن المشاركة الفعالة في الحياة السياسية وقيدت إبداعه، وانتهاء بالفشل في إصلاح النظام وإنقاذه، كما عجزوا عن إدراك نقاط الضعف في بعض النظريات والأفكار التي تضمنتها فلسفة ماركس سواء منها ما كان موجودا أصلا وما عتق وشاخ، نتيجة التطورات التي طرأت على الواقع وعلى النظام الرأسمالي تحديداً «إنّ تنصل الماركسيين من الماركسية يعبر عن العجز الذي ذكرناه، كما يدل على عدم التعمق في فلسفة ماركس.
ما نريد الوصول إليه في فصول هذا الكتاب، هو أن فلسفة ماركس التغييرية لم تنته بانهيار النموذج الاشتراكي السوفييتي، بل يمكن القول إن ذلك النموذج كان عبئاً عليها، قام على إخضاعها لرؤى سياسية ورغبات ثورية قاصرة، وحملها تبعة ذلك. إن الماركسية تحررت من عبء ذلك النموذج بانهياره، وصارت أكثر قابلية للتطور والنمو، وبالتالي، لاستعادة الفاعلية في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ولعل متابعة ذلك في زمننا، تعني، فيما تعنيه، تحرر منهج ماركس من كثير من النصوص الماركسية التي تجاوزتها الحياة وسبقها التطور الواقعي، وغدت عبئاً على المنهج الذي قاد إلى وضعها في ظروف سابقة».

في المنهج الماركسي

لابد أن نتوقف تحت هذا العنوان بالإضاءة على الشرح الذي قدمه الباحث مسوح في دراسته (تجدّد ماركس)، مشيراً إلى أن ماركس لم يضع كتاباً خاصاً عن المنهج المعرفي الماركسي، بل توصل بالتعاون مع أنجلز في كثير من الأحيان إلى وضع نظريات تضمنتها فلسفته التي هي-قبل كل شيء-فلسفة في الحرية، وأهم هذه النظريات: نظرية أسلوب الإنتاج، نظرية الدولة، نظرية فضل القيمة، نظرية الانعكاس، نظرية الثورة…. وغيرها من النظريات الماركسية المعروفة. ولفتت الدراسة إلى أن هذا المنهج أثمر مجموعة من الرؤى والأفكار المتباينة لدى الماركسيين الكبار الذين تابعوا بحث الوقائع والظاهرات الجديدة مثل: بليخانوف، كاوتسكي، لينين، تروتسكي، غرامشي وغيرهم، وقد ختم مسوح «وأدى ذلك إلى وجود ما نسميه الفكر الماركسي الذي هو أوسع بكثير مما كتبه ماركس وأنجلز، والذي لا يمكن أن يتوقف عن التطور والتنامي في مواكبة التطور الواقع وتبدّلاته».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن