ثقافة وفن

دخلت في اللغة العربية منتصف القرن التاسع عشر … لغة «بريل».. عندما تترجم الأصابع نور البصيرة

| وائل العدس

في أحد الأيام فَقَد طفل في الثالثة من عمره إحدى عينيه بعد إصابتها بآلة حادة، وبعد عامين فَقَد عينه الأخرى بسبب مرض الرمد. هاتان الحادثتان المؤثرتان كانتا بداية إضاءة الطريق نحو اختراع عظيم للبشرية لمساعدة الكفيفين على الرؤية ومواصلة الركض في ميدان الحياة.
إذاً، يحتفل العالم خلال الشهر الأول من كل عام باليوم العالمي للغة بريل لإذكاء الوعي بأهمية هذه اللغة بوصفها وسيلة تواصل في الأعمال الكاملة لحقوق الإنسان للمكفوفين وضعفاء النظر.
وتقرر أن يُحتفل باليوم العالمي للغة بريل ابتداء من العام الماضي ليشهد العام الجاري الاحتفال الثاني.

ما لغة بريل؟

لغة بريل هي عرض للرموز الأبجدية والرقمية باستخدام ست نقاط يمكن تحسسها باللمس لتمثيل كل الحروف وعددها، بما في ذلك رموز الموسيقا والرياضيات والعلوم.
ويستخدم المكفوفون وضعاف البصر لغة بريل التي سميت بهذا الاسم تيمناً باسم مخترعها في القرن الـ19 الفرنسي لويس بريل لقراءة الكتب والنشرات الدورية المطبوعة نفسها بالخط المرئي، بما يكفل لهم الحصول على المعلومات المهمة، وهو ما يعد مؤشراً على الكفاءة والاستقلال والمساواة.
ولغة بريل هي وسيلة اتصال للمكفوفين ولها أهميتها في سياقات التعليم وحرية التعبير والرأي والحصول على المعلومات والاطلاع على الاتصالات المكتوبة وفي سياق الإدماج الاجتماعي.
وتقدر منظمة الصحة العالمية أن عدد الذين يعانون إعاقتي قصر النظر أو طوله يزهو على مليار فرد في كل أنحاء العالم. ويعايش الأفراد الذين يعانون هاتين الإعاقتين مستويات عليا من الفقر والتهميش.
وفي تشرين الثاني 2018، اعتمدت الجمعية العامة قرارها بإعلان 4 كانون الثاني بوصفه اليوم العالمي للغة بريل باعتبارها وسيلة من وسائل الاتصال في الأعمال الكاملة لحقوق الإنسان للأشخاص المكفوفين وضعاف البصر.

سؤال ثم اختراع

لماذا أشعر أن كل شيء مظلم؟ بهذه الكلمات كان يحرج المخترع الفرنسي لويس بريل أبويه وإخوته عندما كان طفلاً غير مدرك بأنه فقد بصره، لكن وعلى الرغم من السواد الذي كان يحيط به من كل الجوانب، أكمل حياته بعزيمة وإصرار الأبطال، ليخلده التاريخ بفضل ابتكاره لغة بريل، العين التي مكنت المكفوفين من الإبصار وإكمال تعليمهم وحياتهم بشكل طبيعي أسوة بغيرهم في كل أنحاء العالم.
ولد بريل في مدينة كوبفراي شرق العاصمة الفرنسية باريس يوم 4 كانون الثاني 1809، وعندما كان طفلاً في الثالثة من عمره فقد البصر بإحدى عينيه، بسبب اصطدام أداة حادة فيها، على حين كان يتعلم في ورشة والده لصناعة الجلود. حاول الأطباء إنقاذ عينه إلا أنهم لم ينجحوا، وبعد سنتين من الحادثة، فقد البصر في عينه الثانية بسبب إصابتها بالرمد التعاطفي وهو نوع من الالتهابات يحدث بعد إصابة إحدى العينين بكدمة قوية، وبالرغم من ذلك أكمل حياته وبدأ يتعلم السير على طرقات مدينته الصغيرة بفضل العصا التي صممها والده.
ذهب إلى مدرسة المدينة مستمعاً فقط حتى العاشرة من عمره، وبسبب ذكائه الشديد، أرسل لإكمال دراسته في المعهد الوطني للشباب المكفوفين في باريس، وهناك أظهر تفوقاً وأحدث ثورة بابتكاره نظام كتابة بريل، مستفيداً من شيفرة تدعى «الكتابة الليلية» ابتكرها ضابط في الجيش الفرنسي لقراءة الرسائل الحربية، يستطيع من خلالها الجنود التخاطب فيما بينهم في الأمور السرية من دون الحاجة للكلام أو استخدام الضوء لمشاهدة نصها، وكانت هذه الشيفرة تعمل بأن تبرز على ورق سميك أشكالاً من النقاط أقصاها اثنتا عشرة نقطة، لكل منها دلالة كلامية.
في البداية واجه بريل صعوبة في فهم تلك الشيفرة فقام بتخفيض العدد الأقصى للنقاط من 12 إلى 6، وبدأ بالعمل على اختراع طريقة كتابة جديدة، وانتهى منها وهو لم يتجاوز 15 من عمره، وقدمها لأول مرة لأصدقائه في المعهد في عام 1924.

اختراعات أخرى

في عام 1829، نشر بريل بحثاً لفت فيه النظر إلى إمكان استخدام طريقته في كتابة النوتة الموسيقية للمكفوفين، كما أنه اخترع أيضاً لوحاً ونوعاً من القلم يمكن استخدامه في الكتابة على الورق بدقة في خطوط موسيقية نقراً بالأصابع، أما عن طريقته بأكملها فلم تنشر إلا في سنة 1839 ومع نجاح هذه الطريقة، إلا أنها قوبلت بعدة صعوبات من القائمين بالأمر في المدارس؛ فالمدرس أو التلميذ الذي أراد تعلمها كان عليه أن يفعل ذلك خارج ساعات الدراسة الرسمية. وحتى المدرسة التي بدأت فيها طريقة بريل لم تستخدم رسمياً إلا بعد مرور ما يقرب من أربع عشرة سنة وذلك بعد وفاة بريل بسنين.
وقد عدلت هذه الطريقة بعد عام 1919 وعرفت بطريقة بريل المعدلة. أما كتابة بريل في اللغة العربية فقد دخلت على يد محمد الأنسي في منتصف القرن التاسع عشر حيث حاول التوفيق بين أشكال الحروف المستخدمة في الكتابة العادية وشكلها في الكتابة النافرة.

وبهذه الطريقة نقل الأنسي عدداً من الكتب إلا أن هذه الطريقة لم تنتشر على نطاق واسع وبعد بذل محاولات عديدة اعتمد المهتمون بطريقة بريل لتطوير ما يتناسب مع اللغة العربية. وقد قامت منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة لهيئة الأمم المتحدة في عام 1951 بتوحيد الكتابة النافرة بقدر ما تسمح به أوجه الشبه بين الأصوات المشتركة في اللغات المختلفة. وقد نتج عن هذه الحركة النظام الحالي للرموز العربية.
وقد استفاد المختصون بطريقة بريل باللغة العربية من بحوث الدول العربية المقدمة في هذا المجال من حيث جعل الكتابة البارزة سهلة.

فقد عمل على أن تبدأ الحروف إما بالنقطة رقم (1) أو بالنقطة رقم (2) وكما عمل على أن تكون الأحرف الأكثر استعمالاً في اللغة ذات عدد قليل من النقاط. ولذلك فالأحرف الأكثر استخداماً تشكل في معظمها ثلاث أو أربع نقاط. وقد توصلت هيئات المكفوفين العربية إلى اختصارات لأكثر من مئة واثنتين وثمانين كلمة من الكلمات المتداولة على نطاق واسع، وبهذه الطريقة أمكن توفير الوقت والجهد اللازمين للكتابة.

الكومبيوتر ولكن؟

تقوم كتابة بريل على ست نقاط أساسية، ثلاث على اليمين وثلاث على اليسار، ومن هذه النقاط الست تتشكل جميع الأحرف والاختصارات والرموز، ومع دخول الكمبيوتر إلى عالمنا دخل نظام النقاط الثماني في نظام الكمبيوتر ليعطي مجالاً لاستيعاب أكبر عدد ممكن من الإشارات والرموز، ولكن هذا النظام ظل مستخدماً فقط في الكمبيوتر، ولم يوسع ليستعمل في غيره.

لكن وعلى الرغم من أن عالم الوسائط المعلوماتية اليوم أصبح يوفر للمكفوفين الكثير من الإمكانات الجديدة، إلا أنه ليس هناك في الواقع بديل من هذه الكتابة، فلغة بريل وإجادتها هي الطريق الوحيدة لاستخدام التقنية الداعمة في هذا المجال، هذا ما أكده البروفيسور توماس كاليش، رئيس المكتبة المركزية الألمانية للمكفوفين في مدينة لايبزيغ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن