ثقافة وفن

محمد الفراتي الشاعر العروبي … مطارداته وابتعاده عن المركز أخفى جواهره

| إسماعيل مروة

تعود بي الذاكرة إلى المراحل الأولى في التكوين عندما قرأت قصائد للفراتي، وكانت قصائد جميلة وعذبة، وكثيراً ما كان يتم الخلط بينه وبين غيره من الشعراء، وخاصة العراقيين، ويكاد بعض الشداة يغلبون على الفراتي صفة الترجمة من الفارسية عن صفة الشعر، إلى أن وقعت على مجموعة شعرية له، قرأتها وأيقنت أن المرحلة التي عاشها هي التي صبغته هذه الصبغة شأن أنداده الذين عاشوا تلك الحقبة.

الديوان والرحبي

ذات صباح من عام 1989 سمعت باسم الأستاذ الشاعر العلامة عبد الجبار الرحبي رحمه الله، وعرفت عنه أشياء كثيرة تتعلق بشعره وكتبه، فما كان مني إلا أن توجهت إلى مدينة دير الزور، وهي أول مرة أقصد هذه المنطقة الغالية، وبعد رحلة منهكة بالقطار وجدتني أمام بيت الأستاذ الرحبي، فأرشدني من في البيت إلى مقهى قريب يجلس فيه الرحبي مع أصدقائه، وفي ذلك المقهى جلست مع الأستاذ الذي ذكر اسم الفراتي، وأنه كان يجلس معه في هذا المقهى، وفي بيته حدثني عن الفراتي وأطلعني على ديوانه، ولما كانت الغاية الرحبي فقد أطلعني على مجموعته (نفثة مصدور) وأطلعني يومها على ثمانين كتاباً بخطه، كلها غير منشورة، وأغلبها في التراث وعلوم القرآن، ولكن غرارتي في ذلك الوقت، وقلة معارفي، لم تسمحا لي بأن أحضر بعض هذه الدراسات لأتكفل بنشرها، أسهمت يومها في كتابات عن الرحبي وتراثه لا تغني بشيء، ونشرت حديثاً معه في إحدى الصحف المحلية، وتباعد العهد، ورحل الرحبي العالم الجليل، وأظن أن المخطوطات الثمانين رحلت إلى خاتمتها معه، ولم تخرج من الكوميدينة التي كان يضعها فيها، ويقفل حرصاً.

الديوان والفراتي

إنها لبادرة غاية في الأهمية السنة التي اتبعتها وزارة الثقافة منذ عقود بنشر الأعمال الكاملة للأدباء السوريين الراحلين لتحفظ في الورق والذاكرة هذا التراث الذي صار يتيماً برحيل مبدعيه، ولن يجد من يعتني به، وقد شكلت هذه الأعمال ثروة ثقافية في الشعر والنثر على السواء، وها هي تلتفت إلى أعمال محمد الفراتي بعد عمر أبو ريشة لتصدر أعماله الشعرية التي تسعد روحه في رقدته، وتعيد الهيبة لتمثاله وإن طاله الأذى، وتسعد المنطقة الشرقية ومبدعيها الذين أعطوا سورية الكثير، ومن حسن الطالع أن تشكل لجنة علمية تضم خبراء يملكون الثقة والمعرفة، مع أحد أبناء الفرات المعني بخبرته بحفظ هذا التراث وتوثيقه، لتقدم وثيقة جديدة عن المنطقة بعد الذي قدمه صديقي الراحل الدكتور وليد مشوح من أعمال عبد القادر عياش ضمت اللجنة د. ثائر زين الدين ود. محمد شفيق البيطار، ود. محمد قاسم وأ. سراج جراد.

الفراتي واللقب

الفراتي أو محمد الفراتي، هكذا يعرف شاعرنا، وقد ارتأت اللجنة أن تقدم للأعمال بمقدمة مركزة تفي بالغرض على اختصارها، غنية بالمعلومات والتواريخ، تظهر جانباً لا يعرفه الكثيرون عن الشاعر، فهو شاعر وأكاديمي وأزهري، نال العلم بالإجازة وبالرحلة، وهو إلى ذلك رجل موقف وسياسة، فقد قاوم المحتل الإنكليزي والفرنسي، وعانى الهروب والتواري، شهد الثورة العربية الكبرى، وانقلب على زعمائها حين اكتشف الحقائق، وشارك مع سعد زغلول في ثورته عام 1919، شاعر ومناضل هو الفراتي، وساحة نضاله ما بين مصر وسورية والعراق والحجاز، مدرس للعربية لقّن طلابه العربية وكان من طلابه عبد الجبار الرحبي، وتعطينا سيرته وسيرة طالبه فكرة مهمة عن المنطقة العربية آنذاك والتنقل بين البلدان، صحفي على طريقة ذاك الزمان كان الفراتي، فترك إرثاً صحفياً أدبياً راقياً.
وبقي لقبه الفراتي علامة تتفوق على اسمه: محمد بن عطا الله بن محمود بن عبود، كما هو حال بدوي الجبل الذي تفوق لقبه وصار اسماً، والجواهري وغيرهم من الأخطل إلى القروي إلى سلسلة طويلة كان الأدب غاية، والاسم والشهرة دون الغاية، لأن الغاية الأهم هي الوطن والأدب شعره ونثره.

الديوان والمحتوى

ضم الديوان جل شعر محمد الفراتي، وجاء في خمسة أقسام الأول ضم: العواصف والقوميات، والثاني ضم العواصف الأخرى، والثالث ضم أروع القصص والهواجس، والخامس ضم الكوميديا السماوية والنفحات الأولى، وبعض أعماله النثرية.
والعواصف بطبعتها الأولى قدم لها الأستاذ الشاعر عبد الجبار الرحبي، وهو القريب من الشاعر، واللصيق به، والتلميذ الذي ينهج نهج الشاعر الفراتي، وبعيداً عن حديثه عن الفراتي وعلاقته به، أقف عند حديثه عن شاعريته، «والفراتي شاعر مطبوع فياض القريحة رقيق الديباجة، نقي اللفظ، خبير بفنون القول، ومن أصدق صفاته إخلاصه لأدبه وفنه، وأسلوبه، وطابع اللغة، والتفرد بالإبداع والابتكار، والصدوف عن التقليد والمحاكاة».

وهذه أحكام مهمة من منظور النقد، فإن كان الطبع واللفظ واللغة من القضايا المسلم بها، فهل يمكن تنزيه الفراتي عن التقليد والمحاكاة للشعراء الأفذاذ الذين ترسَّم خطاهم، وأولئك الذين فتن بشعرهم فقرأه، أو الذين ترجم لهم،؟ الأمر يحتاج إلى دراسة متأنية ناقدة وأكاديمية في شعر الفراتي، وهو مستحق للدراسة المعمقة.
وهذا الحكم فيه من المبالغة ما فيه، ففي المجموعة التي يقدم لها الرحبي يخاطب الفراتي بني وطني مبيناً سبل الارتقاء:

ترقت شعوب الغرب من حيث إننا

من العلم لا قشرٌ أصبنا ولا لبّا

فهم أعلنوا حرباً على كل جاهل

ونحن على أوطاننا نعلن الحربا

وهم أوضحوا بالعلم كل خفية

وبتنا نقاسي من جهالتنا الكربا

وهذه القصيدة الجميلة والمعبرة وصاحبة الغاية النبيلة لا تخرج عمّا انتهجه معاصروه وسابقوه كالزهاوي والرصافي والنجفي، ولكل منهم شعر في واقع الأمة وأسباب ترديها، وإن كان الفراتي ناعماً يجعل العتبى سبيله في حياته لقومه الذين لم يسمعوا نصحه، فإن الزهاوي تناول العادات والتقاليد بالنقد بصورة أكثر وضوحاً سعياً إلى علاج مؤكد.

ومن جميل هذا الإصدار أنه حوى شيئاً من نثر الفراتي، هذا النثر الذي لا ينتمي إلى الإبداع، وإنما ينتمي إلى الدرس والتحليل في دراستين، واحدة عن الحمام، في سياق أدب الحيوان، وأخرى عن الشاعر الكبير سعدي الشيرازي الذي حظي بعناية خاصة من الفراتي نفسه، وأزعم أن براعة الفراتي في قراءته وتقديمه تستحق الوقوف عندها مطولاً، وهو الذي يتتبع نشأته وتسميته ورحلاته وشعره الرائع في كلستان.

محمد الفراتي الثائر بروحه وشعره يستحق منا وقفة أكثر عمقاً، ولكن التعريف بديوانه يتوقف هنا، كيف لا وهو القائل وبجرأة كبيرة:

ولي روح كأن بها جحيماً

تأجج أوسناً من كهرباء

تثور إذا رأت في الأرض نقصاً

وأحياناً تثور على السماء

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن