قضايا وآراء

في الكرملين رئيس سوفييتي

| عبد المنعم علي عيسى

لا يبدو أن تشغيل خط «السيل التركي» الذي جرى الإعلان عن بدء تشغيله في إسطنبول يوم الأربعاء الماضي، كان كافياً لإسالة اللعاب الروسي بقدر ما هو كاف لتليين عريكة موسكو التي بدت صلبة في مواقفها جداً فيما يخص الأزمة السورية عموماً وفي ملف إدلب بوجه خاص، مع إبداء ليونة أكثر في الملف الليبي، أو أقله ترك الباب موارباً في هذا الملف الأخير من دون إغلاق تام لـ«السقاط» الذي سمع صوته بوضوح إلى الخارج في حالته الأولى، ولا يشكل إعلان مركز المصالحة الروسي في سورية عن وقف لإطلاق النار في إدلب اعتباراً من بعد ظهر الخميس الماضي، أي بعد أقل من 24 ساعة على لقاء الرئيسين فلاديمير بوتين مع رجب أردوغان، خرقاً لسماع صوت «السقاط» سابق الذكر، فوقف إطلاق النار يستثني بالتأكيد الفصائل الإرهابية التي تشكل الأغلبية الساحقة في إدلب ومحيطها، وأردوغان يدرك جيداً أن ذلك الإعلان لا يعدو أن يكون نوعاً من «كريما» على قالب «كاتو» غير مستحبة الطعم، ولسوف يزول تأثيرها سريعاً في الفم، أما الوفد التركي الذي زار موسكو الأحد الماضي، والذي وصف بالرفيع المستوى، فإن عمله كان يهدف إلى إقناع موسكو بزيادة سماكة طبقة «الكريما» لكي تزداد فترة الإحساس بطعمها، وفي أقصى الآمال فإن الرهان التركي قد يذهب نحو محاولة إنضاج «اتفاق سوتشي معدل» عن ذاك المبرم في أيلول من العام 2018 وهو رهان يبدو ضعيف الحظوظ وفق المعطيات الراهنة، وهو حتى لو نجح فإنه لن يخرج عن أحد سيناريوهين أولهما قبول أنقرة بإبعاد «هيئة تحرير الشام» عن الطريق الدولي الرابط ما بين حلب ودمشق الأمر الذي يمثل لهذي الأخيرة أولوية في هذه المرحلة، وثانيهما مساعدة أنقرة في عمليات الضغط على «الهيئة» لإحداث تصدعات في بنيانها تتبعها انشقاقات للفصائل التي تستظل بظلها مما سيدفع بها، أي بالهيئة، إلى الانسحاب نحو المناطق الجبلية غربي إدلب، وكلا السيناريوهين سيؤديان إلى تعزيز مواقع الجيش ويجعل من إدلب «ثمرة ناضجة» مع احتمال أن يكون هناك تأجيل لموعد القطاف ولو إلى حين.
ذهب العديدون في تفسير النتائج التي خلصت إليها تلك القمة إلى القول إن المشروع الذي أعلن عن انطلاقه، هو بحجم شراكة إستراتيجية كبرى كانت قادرة على جب كل الخلافات التي برزت هنا وهناك، فعلى الرغم من أن أي من ملفاتها المطروحة، والتي احتوت إلى جانب كل من سورية وليبيا، العراق أيضاً، إضافة إلى التوتر الإيراني الأميركي وانعكاساته المحتملة على كامل المنطقة، لم تسجل حالة واحدة من التوافق، وإن اختلفت التباينات في حجم واتساع رقعتها، إلا أن ذلك لم يشكل سبباً كافياً لانبعاث روائح الخلاف التي طغت عليها روائح النفط، ويضيف هؤلاء إن ذلك المشروع الذي وصفته مجلة «فورين بوليسي» بأنه «انقلاب جيوسياسي وتجاري يخدم مصالح الطرفين»، سيحول تركيا إلى «صهريج» لتخزين وتصدير النفط الروسي إلى أوروبا، وفي الآن ذاته سيمثل اختراقاً روسياً لفضاءات أوروبا الأقرب، ولذا فإن حجم وكم المصالح كانا حاكمين للمواقف تجاه الملفات الأربعة السابقة الذكر ما اقتضى تغييب الخلافات التي اختفت تماماً عن البيان الصادر عن القمة، فيما الملف السوري ظل بحاجة إلى متابعة قد لا تطول حساباتها وترسو على مستقر قريب لها، وقد تطول.
ربما ذلك التحليل واقعياً أو أنه يحمل الكثير من المشروعية خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة الروسية التركية التي خرجت من مهدها المملوء بالأفاعي والحافل بحروب التاريخ إلى «حضانة» البراغماتية التي فرضت تلاقيات الاثنين لظروف واعتبارات عديدة بدءاً من آب العام 2016، إلا أنه من المؤكد أن ذلك التحليل غير مكتمل أو بمعنى أدق لا يشكل الصورة بأكملها خصوصاً في حالته السورية.
تمثل الرسائل التي أراد الرئيس الروسي توجيهها من دمشق التي زارها قبل 24 ساعة من لقائه بنظيره التركي رزمة ألوان راسمة لملامح الاستنتاجات السابقة ومحددة، في آن، لأطرها ومراميها، وهي حملت العديد من الإشارات المهمة في العديد من الاتجاهات، لعل أبرزها هو القول إن هناك حكومة شرعية قائمة في سورية وعلى «المجتمع الدولي» التعاطي معها حصرياً فيما يخص أي شأن سوري، ثم إن تلك الحكومة استعادت سيطرتها على أغلبية التراب الوطني، والصورة التي يسوقها الخصوم عن حال البلاد ليست صحيحة، بل إنه تعمد القول وهو في طريقه إلى مطار دمشق الدولي مغادراً: «رأيت السيارات والعربات ورأيت عودة الحياة السلمية والمطاعم والمحلات التي تعمل في طريقي»، وذاك قول موجه إلى النظام التركي بالدرجة الأولى ولآخرين متلاقين معه في الرؤى والأهداف، كان بوتين يرمي إلى القول بأن عجلة الأحداث لا يمكن أن تعود في سورية إلى الوراء أياً تكن درجة العتي التي تتميز بها العصي الموضوعة بين «أسياخها» المسؤولة عادة عن نقل الحركة، وتمام المشهد لا يكون إلا بعودة ما تبقى من أراض لا تزال خارج سيطرة دمشق في مشهد يرسخ لسياسة روسية لم تحد عنها موسكو منذ يوم 4 تشرين أول 2011 عندما استخدمت الفيتو الأول ضد قرار غربي كان يمهد لتدخل الناتو في سورية على غرار ما حصل في ليبيا ربيع هذا العام الأخير.
رسالة أخرى لا تقل في أهميتها، إن لم تكن تزيد، أطلقها بوتين من دمشق عبر زيارته للكنيسة المريمية ولضريح يوحنا المعمدان، أو النبي يحيى عند المسلمين داخل مسجد أمية الكبير، والراجح هو أن الغرب كان قد تلقف هذي الرسالة سريعاً وبحال من الريبة والقلق، انطلاقاً من أن الرئيس الروسي أراد عبرها توسعة مروحة عوامل القوة التي يسعى إلى استخدامها في صراعه المحتدم مع الغرب، وفي شرح ذلك يمكن القول إن روسيا تاريخياً تعتبر نفسها راعية للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية التي مقرها دمشق، وإن كان هذا المنحى قد غاب عن الاستخدام الروسي في المرحلة السوفييتية 1917-1991 والمرحلة التي تلتها.
والمؤكد أن هذا التفعيل الذي يهدف إلى الاستقواء ببعد ديني وتاريخي في آن، يمثل الخطوة الثانية المهمة ما بعد الحرب الروسية الجورجية في آب 2008 التي مثلت صرخة الاستيقاظ الروسي الأولى في سعي موسكو نحو رسم أخاديد جديدة لدورها المقبل الذي تتالت رسومه خلال العقد الذي تلا هذا الحدث الأخير.
أثبتت السياسة الروسية في عهدها البوتيني أنها وعلى الرغم من محدداتها البراغماتية التي بدت مفرطة في أحايين عدة، حتى حاول البعض، مثل السعوديون والقطريون في البدايات ثم الأتراك راهناً، شراء مواقفها السورية بدفوعات من شتى الأنواع والصنوف، أثبتت تلك السياسة أنها تولي الأهمية الأولى في بناء استراتيجياتها لمرتكزات الأمن القومي الروسي أولاً تحت أية ظروف وبعيداً عن أية إغراءات، وفي ذاك تجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كان قد قال لوفد «هيئة التنسيق»، كما يروي معارضون، عندما التقاه في نيسان 2012: «إن روسيا تدافع عن موسكو في دمشق»، في ملمح يشجع للقول بأن موسكو تسلتهم اليوم، أكثر ما تستلهم، في تجربتها الراهنة، مرتسمات النهوض في المرحلة السوفييتية، مع الأخذ بعين الاعتبار تغير العوامل التي اعتمدت عليها، وكذا تغير المعطيات التي أفرزتها عملية سقوطها المدوي عام 1991.
الأداء السياسي الروسي يشي، أو هو يدفع للجزم، أن في الكرملين اليوم رئيس سوفييتي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن