قضايا وآراء

واشنطن.. من إستراتيجية الهيمنة إلى إستراتيجية الوجود الآمن

| محمد نادر العمري

مما لاشك فيه سواء اتفقت الأنظمة السياسية الإقليمية والدولية مع النظام الإيراني أم لم تتفق، إلا أن طهران تمكنت من أن تقول كلمتها وتترجم وعودها وتهديداتها بالميدانين السياسي والعسكري على حدٍ سواء من خلال عملية الرد على مقتل الفريق قاسم سليماني، وبذلك تكون المنطقة دخلت مرحلة أكثر تقدماً في شكل الصراع الذي من شأنه أن يفرز توازنات جديدة وترسخ محددات لقواعد اشتباك ليس كسابقاتها.
فمابين الإعلان الصريح والواضح للجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها بتبني إستراتيجية إخراج الولايات المتحدة من غرب آسيا، وعدم إنصات طهران للمطالب والوساطات الغربية، وصولاً لاستهداف قاعدتي عين الأسد وأربيل، بدأت ملامح هذه المرحلة تتبلور في صراع محور المقاومة وأصدقائها ضد المحور الأميركي، فارضةٍ بذلك إستراتيجية صراع الإرادات في الوجود، وخاصة للأميركي الذي كان يهدف خلال العقود السابقة مع نهاية الحرب العالمية الثانية لتعزيز هيمنته في الشرق الأوسط، والذي قد يبدأ بتبني إستراتيجية الحفاظ الآمن للوجود، وهذه المقاربة في تبدل طرح الإستراتيجيات يمكن تلمسها في المؤشرات التالية:
1- جدية وحزم الرد العسكري الإيراني وأهميته: وخاصة أن هذا الرد شكل صفعة مؤلمة لهيبة الولايات المتحدة الأميركية على مستوى النظام الدولي لم تشهده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأرسى مجدداً مسعى الدول الصاعدة في إسقاط الهيمنة القطبية الأحادية، وخاصة أن عملية الرد الإيراني أثبتت قدراتها على إنتاج منظومة صواريخ دقيقة ومتطورة تكنولوجياً، واستطاعت بوساطتها طهران إصابة أهدافها بدقة وشل قدرة الرادارات الأميركية، في ظل تأهب أمني واستخباراتي وعسكري كامل على مستوى المنطقة من أميركا، فضلاً عن أن استهداف قاعدة عين الأسد بشكل خاص تضمن بعدين أساسين: الأول من حيث التوقيت فإنه جاء مع إنهاء مراسم دفن الشهيد سليماني ورفاقه وبذات التوقيت استهداف القاعدة التي انطلقت منها الطائرة المستهدفة. الثاني والمتمثل بمضمون الرد، حيث تعتبر قاعدة عين الأسد من أكثر القواعد أهمية للقوات الأميركية من الناحية الإستراتيجية في المنطقة لعدة أسباب:
– تصلح لإقلاع وهبوط القاذفات الثقيلة ومدرجها يمتد بين 6 إلى 8كم، وبذلك يكون مدرجها مخصصاً لطائرات الأوزان الثقيلة ويمكن أن تستوعب طائرات «B52» بعد أن أدخل على المدرج بعض اللمسات، فضلاً عن استخدامها كقاعدة للطائرات المقاتلة والعامودية والثابتة الأجنحة، وتصلح لأن تكون قاعدة منصات صاروخية وهي محمية بدرجة عالية ويوجد فيها ملاجئ محصنة من الضربات النووية تحت الأرض.
– يوجد في القاعدة رادار إيطالي يعمل وفق نظام «بروس غاثر» ويغطي المنطقة الممتدة من غرب إيران وصولاً لفلسطين المحتلة وما بينهما من جغرافية العراق وسورية ولبنان، وهذا الرادار يرتبط مع الأقمار الصناعية وطائرات «الأواكس» ما يتيح مسحاً أرضياً وجوياً كاملاً، كما أن القاعدة تستخدم للحرب الإلكترونية من استطلاع وتجسس وغيرها.
– هذا الرد شكل رسالة مزدوجة من إيران تتعلق من ناحية بصوابية تمسكها بحقها في امتلاك درع صاروخي وتقدم تكنولوجي لحماية نفسها وردع أعدائها، ومن جانب آخر عزز الثقل الإيراني على مستوى المنطقة.
2- المؤشر الثاني والمتمثل بابتلاع واشنطن الرد الإيراني، وتجلى ذلك في خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب عقب الرد والذي مثل نموذجاً للتناقضات بما في ذلك قول ترامب بأنه لا يرغب في استخدام القوة العسكرية، كما تضمن الخطاب إرسال رسائل طمأنينة للداخل الإسرائيلي بقول ترامب بأنني كرئيس للولايات المتحدة لن أسمح لإيران بامتلاك القوة النووية، وأعاد توظيف الملفات الخارجية ضمن حملته الانتخابية وخاصة عندما ألقى اللوم والمسؤولية على إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في الاتفاق النووي، كما أن دعوته للناتو للمشاركة بدور أوسع في الشرق الأوسط هدفها الرئيس توريط الحلف في هذا الصراع والخشية على جنوده من الموت نظراً لما سيتركه ذلك من صدى سلبي على صناديق الانتخابات القادمة في حال حصوله.
3- المؤشر الثالث والمتمثل بالخشية الإسرائيلية الضمنية والعلنية من ارتدادات اغتيال قاسم سليماني على أمنها، فإن كانت تل أبيب وقياداتها الأمنية والسياسية هي الأكثر فرحاً باستشهاد سليماني، إلا أن الرد الإيراني دفعها لابتلاع لسانها بعد ظهور جزء من القدرات الإيرانية الصاروخية وجدية تنفيذ وعودها، وتل أبيب نفسها تخشى اليوم من أن يتمكن محور المقاومة من استنزاف الأميركي ودفعه للخروج من المنطقة، وهذا سيشكل ضرراً بإستراتيجية المصالح الأمنية والعسكرية والسياسية للكيان الإسرائيلي إن لم نقل الوجودية، وهذا التخوف طفا على سطح وسائل الإعلام العبرية المقربة من الدوائر الضيقة. فصحيفة «هاآرتس» وفي تقرير لها ذكرت: «إن عملية اغتيال قاسم سليماني، قد تخيف بعض الشخصيات المهمة في محور المقاومة وفي مقدمهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، لكن إن أدت هذه العملية لانسحاب القوات الأميركية من العراق فسيكون ذلك تحدياً وجودياً لإسرائيل»، على حين موقع «المونيتور» كان أكثر وضوحاً عندما ذكر «أن الانسحاب الأميركي هذا يعني بقاء إسرائيل وحيدة في ساحة المواجهة مع إيران ومحور المقاومة»، لذلك دعا الموقع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لاستخدام كل الوسائل التي يمتلكها ومن بينها إدخال القادة الإنجيليين في الولايات المتحدة على خط المعركة لمنع ترامب من الانسحاب.
4- المؤشر الرابع هو ردة الفعل الأميركية والتي بدت واضحة بأنها وضعت سلم النزول لنفسها من أعلى الشجرة عسكرياً، ولكنها ستلجأ للخيارات الأخرى في صراعها مع إيران للحفاظ على وجودها، لذلك بدأت سعيها عبر استخدام الحرب الناعمة للضغط على الحكومة العراقية وتهديدها بفرض عقوبات اقتصادية وحجز أموالها التي تزيد على 35 مليار دولار في المصارف الأميركية إن لم توقف قرار مجلس النواب بإخراج القوات الأميركية، كما أنها وصفت هذا القرار بأنه قرار «شيعي» بحت اتخذه النواب المقربون من إيران بهدف رغبة واشنطن في زج النخب السياسية في اقتتال داخلي، فضلاً عن ممارسة واشنطن ضغوطها على دول حلف شمال الأطلسي لإرسال المزيد من قواتها للعراق والبحث مع إقليم كردستان العراق لإقامة ثلاث قواعد أميركية كبيرة بها.
– نعم مؤشرات الحرب المباشرة تراجعت ولكن لا يعني عدم توافر احتمالات التصعيد خلال المرحلة القادمة في ظل احتمالية قيام تل أبيب بمغامرة غير محسوبة العواقب أو أن يقدم الأميركي على إصراره في البقاء بالعراق ودخوله في حرب استنزاف مع الحركات المقاومة هناك والتي توعدت بردٍ على اغتيال أبو مهدي المهندس الذي لا يقل أهمية عن مثيله الإيراني، فهل تستوعب دول المنطقة ذلك وتغير من تحالفاتها باتجاه المسار الروسي على سبيل المثال؟ وهل سيتمكن ترامب من الحفاظ على الوجود الأميركي في المنطقة ويجد قنوات دبلوماسية تعيد بعض الدفء للعلاقات مع إيران؟ أم إن الديمقراطيين سينجحون في إقناع الجمهوريين بضرورة عزل ترامب للحفاظ على الوجود الأميركي في المنطقة؟
المؤكد أن هناك ثلاثة متغيرات ستشكل محور الاهتمام خلال المرحلة القادمة:
– المتغير الأول: إن روسيا الاتحادية هي الرابح من تراكم الأخطاء الأميركية وقد تشكل طوق النجاة الأخير لواشنطن في إخراج الاتفاق النووي من سباته.
– الثاني: إيران ومحور المقاومة لديهم ما يكفي من قدرات ردعية وهجومية للتصدي لأي اعتداء.
– الثالث: إن إنهاء الوجود الأميركي بالمطلق في المنطقة مستبعد نوعا ما على الأقل في هذا التوقيت بسبب وجود قواعد للناتو في تركيا وأنظمة حليفة لها في الخليج، ولكن ستتحمل واشنطن تكلفة بقائها في العراق وسورية؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن