ثقافة وفن

هل تعود القصة بين القارئ والكتاب قصة عاشق ومعشوق؟ … الكتاب ما يزال ينبض بالحياة ولا يؤثر فيه ما يشاع عن تراجع دوره

| نبيل تللو

لا تتسم المعلومة بالعمومية، ولا تكون مشاعةً ملكاً للجميع وخاضعةً لما تخضع له المعلومات العامة من قبولٍ أو رفضٍ أو زيادةٍ أو نقصٍ أو تعديلٍ أو نقدٍ وتحليل، إن لم تُنشر بأي طريقةٍ من طرائق النشر القديمة أو الحديثة، ومنها الكتاب، أما قبل النشر فهي ملكٌ حصري لصاحبها.
والكتاب هو النافذة التي نُطِلُّ منها على العالم، فنرى من خلالها ثقافاته وتراثه وحضاراته، إنه الصديق الودود، والأستاذ الدائم، والمدرسة الحقيقية، والوسيلة الأولى والأهم من وسائل ربط الإنسان بالمعرفة، ولذا لا بُدَّ من إيجاد مكانٍ لحفظه، مثل المكتبة، التي دونها يضيع؛ وتضيع معه ثقافة المجتمع.
فالمكتبة أفضل مكانٍ لرؤية الكتاب ومطالعته، إذ إنها قادرة على إتاحة فرص التزود بالعلم والمعرفة لجميع الناس، من الفئات والأعمار كافة، وللجنسين، فدونها يظلُّ الفكر شريداً تائهاً، ويصبح الكتاب طليقاً ضائعاً، فلا دار تؤويه، ولا رفاً يركن إليه، ولا من يعرِّفَ به، ويحفظه من جيلٍ إلى جيل.

وتُعَدُّ دراسة تاريخ الكتاب دراسةً لتطور الفكر الإنساني، في ركوده وتألقه، لأن الكتاب هو تعبيرٌ عن هذا الفكر، يعكس نتاجه، ويقدم أعماله، في حين تُعَدُّ المكتبة دليلاً بارزاً آخر على طريق هذا التطور، لأن ازدهارها في عصرٍ من العصور، إنَّما هو دليلٌ على رقي هذا العصر، وانطلاقه في مجال العطاء العلمي والإبداع الثقافي، والعكس صحيح.
أتخيَّل نفسي في هذه المقالة وأنا أجول في مكتبةٍ من المكتبات، سواءٌ أكانت مكتبةً لبيع الكتب، حديثها أو قديمها، أو مكتبةً تحفظ الكتب بانتظار قارئٍ متلهفٍ ومتعطِّشٍ على استعارة ومطالعة كتابٍ بعينه، أو دون تحديد، بغرض البحث والاطلاع وزيادة المعلومات، أو حتى بغرض تمضية الوقت بشيء نافع مفيد.
وأول ما يخطر ببالي وأنا أجول بين الممرات الممتدة بين رفوف الكتب؛ وأمدُّ يدي لتصفح هذا الكتاب أو ذاك؛ هو أن هذه الممرات ليست إلا وسيلة وطريقة للوصول إلى بلدان العالم الأخرى وثقافاتها، فهي بمنزلة خطوط النقل جواً وبحراً وبراً، بل السفر الفضائي مستقبلاً، وأنَّ هذه الكتب ليست إلا صورة مصغَّرة عن العالم الذي نعيش فيه. غير أن هذا التنقل لا يحتاج إلى العبور من خلال مراكز الهجرة والجوازات التي هي أول ما يشاهدها المسافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، ودون أن ترمقك نظرة الموظف التي تشعرك بأنك متهمٌ بأمرٍ ما؛ على حين تتحرك عيناه لمطابقة الصورة مع وجهك، فتجد نفسك تكاد تطير من الفرح عندما يمسك الخاتم ويضربه على صفحة جواز السفر. بل على العكس من ذلك، فإننا نلمح شخصاً ما، هو أمين المكتبة الحكومية الذي يبادرك بالقول: « إذا كنت تبحث عن كتابٍ بعينه، فسوف أدلك عليه »، أو هو صاحب المكتبة الذي يعرض عليك شراء كتابٍ حديث الصدور ومحتواه فائق القيمة، ويبادرك بالقول: « أنت محظوظ، فهذا اليوم هو آخر يومٍ في التخفيضات، فلدينا حسمٌ مقداره كذا على سعر الغلاف، بل أنت من سعداء العالم، فهذه آخر نسخة لدينا من هذا الكتاب».
وتالي ما يخطر ببالي هو أن هذه المكتبة ليست إلا سفاراتٍ لبلدان العالم المختلفة، ولكن من دون علمٍ يرتفع فوقها، أو سفيرٍ يمثلها ويستدعى ـ عند الحاجة ـ للاحتجاج على أمرٍ ما يخصُّ بلده، فيجد القارئ نفسه وكأنه يجول في هذا البلد أو ذاك من دون أن يغادر بلده، وذلك من خلال تصفحه أو مطالعته لهذا الكتاب أو ذاك.
وثالث ما يخطر ببالي، هو هذا الصراع المستميت الذي بدأ منذ أواخر القرن العشرين، وما زال، الذي يخوضه الكتاب الورقي الذي يألفه بعضهم لدرجة العشق، في مواجهة الخطر المتربص به من قبيل العوالم الافتراضية الإلكترونية والرقمية، الذي يتمسَّك به البعض الآخر لدرجة الوله، فأرى أن منظومة الثقافة قد تغيَّرت، ولم يعد مفهوم «الحقيقة» مقتصراً فقط على الملموس، والمقصود هنا هو الكتاب الورقي، وإنما اتسع ليشمل ما هو افتراضي أيضاً، فبإمكاننا الآن أن نقوم بزيارةٍ افتراضيةٍ لكلِّ أقسام مكتبةٍ بعينها على شبكة الإنترنت، فمن خلال محرِّك البحث «غوغل» ومواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والمدونات؛ نستطيع مشاهدة أعدادٍ لا تحصى من مكتبات العالم.
وآخر ما يخطر ببالي وأنا أنظر إلى هذه الكتب، هو الرحلة الطويلة التي قطعها الكتاب حتى وصل إلينا بالشكل الذي نراه الآن، فمن مخطوطٍ كُتِبَ بخط اليد نسخةً واحدة أو عدداً محدوداً من النسخ على ورق البردي أو الرق أو جلد الغزال، وكان يُحفظ في خزائن البيوت، إلى مطابع تعطي آلاف النسخ الفاخرة الطباعة العالية الجودة، ليقرأها ملايين الناس حول العالم، وتحفظ في مكتباتٍ عامة تتهافت الحكومات وتتسابق على جعلها أماكن جميلة لجذب القراء إليها، فانتقلت من مجرد مكانٍ لمطالعة الكتب، إلى مكانٍ يضمُّ الكثير من الأشياء الجميلة، في الوقت ذاته هناك حكاياتٌ تقَصُّ على الصغار في قسم كتب الأطفال، وإلقاء شعرٍ في قاعةٍ مجاورة، وإصدارات كتبٍ جديدة موضوعة في خزائن خاصة للفت الأنظار إليها، وحفل توقيع كتابٍ على وشك أن يبدأ، ومحاضرةٌ ذات موضوعٍ عام على وشك أن تنتهي وما يليها من نقاشاتٍ تغنيها وتثريها، ناهيك عن مكانٍ مخصصٍ لبيع المأكولات الخفيفة.
وعندما أرى كل تلك الأشياء، أو أسمع عنها، أدرك حينها أن الكتاب ما زال ينبض بالحياة، وأنَّ حروفه وكلماته وفقراته وفصوله وأبوابه وصوره ولوحاته ورسوماته هي كلها بمنزلة شرايين حياة ما زالت تضخُّ الفكر والثقافة في عقولنا نحن الكبار، وما زالت مستمرة ببثِّ العلم والمعرفة في نفوس ناشئتنا، وأنَّ العلاقة الأزلية بين القارئ والمكتبة، أو بين القارئ والكتاب، ما هي إلا كالعلاقة بين طائري العاشقٌ والمعشوق اللذين لا يفترقان حتى الرحيل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن