ثقافة وفن

«كتاب الأشياء» قاموسٌ جديد في اليوميات والأفكار … كيف يجرؤ هذا النحيل على كتابة كهذه؟

| أحمد محمّد السّح

يعرفُ جوان تتر -ويستحقُّ هذه المعرفة! إنه سيصبح واحداً من أبرز شعراء عصره في زمن ضجيج الشعر الخافت؛ فهو استطاعَ يوماً ما أن يطبعَ ستين صفحةً ويرسلها إلى مصر لينال جائزة عن قصيدة النثر التي يكتب فيها رافضاً الأوزان والقيود عن حسن اطّلاعٍ وتدبير. لا الجائزة هي الاعتراف بشاعرية جوان بل هذه الفجائعية المغموسةُ بالفقر، وهذا الخوف المترامي الأطراف هو وحده من يجعلك تقرأ راصداً حركاته وخوفه وأحزانه من دون أن يخشى هذا النحيلُ أن «يفضح» نفسه بتقديمها صادقة وعاصفة كاملا منذ عمله الأول «هواء ثقيل» حتى كتابه الرابع الذي أسماهُ «كتاب الأشياء» وصدر عن دار التكوين.
يكتبُ الشعراء كتباً خاصةً لتكون قواميسهم الخاصة في تعريف الأشياء، وهذه الأشياء هي حيواناتٌ وأشخاص وأرواحٌ وأوطان، يعرّفونها وفقاً لفهمهم لها، وعلاقتهم بها، من دون أن يختبروا وجهة نظر الآخر مع هذه التعاريف، بل هم يريدون – كما جرى عادةً – أن يفرضوا تصوّراتهم للأشياء، وجوان تتر ليس الأول في هذا، فالأقرب إليه ابن جلدته الشاعر الكردي السوري سليم بركات الذي عاش كامل تجربته المستمرة إلى اليوم وهو يستدعي حضور الأشياء إلى طاولته وأوراقه كمن يريدُ عقد مؤتمرٍ يكتب بياناته وجداوله ومخططاته كاملةً بتوقيعه، وكأنه ديكتاتور يكتب كل شيء بخطه من ألفهِ إلى يائه.
«الخطأ، سيّد الأوقات، حينَ يكونُ هناكَ متّسعٌ من المكان لتحمّل العديد من الأخطاء، (الخطأ لا يُجمع) الخطأ خطأٌ، مفردٌ لا جمعَ له» – قصيدة «الخطأ في الحرب» هنا وفي أكثر من موقع في كتاب الأشياء يسعى الشاعر لتعريف المفاهيم المجردة، إلى إعادة عجنها بالمفاهيم والتصورات وكل ما عنده من عذابات وذكريات، فجوان تتر لديه كاميرتان كاميرا تصور للخارج وكاميرا للداخل،- وهاتان الكاميرتان لا تشبهان أجهزة الهاتف الحديثة– لأنه ما من حداثة تستطيع أن تمزج الصورة الملتقطة مع صور الذاكرة الغائمة وما فيها من جروح وأثلام. ففي المقطع الذي عنوانه «صور 2018» يدخل عالم التفاصيل الحياة بكل جرأة وكأنه يقدّم وجبةً خاصة للشعر الحديث، الذي لا يلتزم بتوزيع الأسطر أو الأحرف على الصفحات، إنما يعتمد الكتابة المقطعية الشبيهة تماماً بالكتابةِ النثرية: «بصورٍ أو من دون صور، الأمر واضح، جحافل الكراهية وصلت إلى أمام عتبات البيوت الطينية الفقيرة، أحرقوا صوركم في الذاكرة أو على الورق المقوّى، أتلفوها الآن، الآن على الفور».
لطالما أراد جوان أن يقدم عصافيره صغيرة وباردة، وهو ينكر عليها حتى تجولها في سجنه الذاتي فهو ديكتاتور يقمع نشاط العصافير، يرصد حركة ذهابنا إلى الفرن لشراء خبز وهي من التفاصيل التي لا يتخلى عنها في كل أعماله، كأنه شاعر يكتب لنعيش. شأنه شأن الخبز، وقد يكون اهتمامه بهذه التفاصيل المخفية ناجماً عن اطلاعه على الشعر الياباني وتجربة الخوض بالحياتي والتفصيلي، والابتعاد عن الحذلقة اللفظية واللغوية وهو المصرّ على استخدام الكلمات البسيطة والبسيطة جداً ليوصل عبرها فكرة عميقةً، يلفت انتباه قارئهِ، لا ليدهشه باللغة، بل ليضيء له إشارة إلى الحالةِ التي يعيش.
يكتب لا كما ينبغي عليه أن يكتب ليبدو مثل الآخرين، بل كما يريد هو أن يكتب، نادراً ما استطعتُ التواصل مع الكتابةِ الشعرية المتلفعة بالنثر، وأنا أجد فيها هنات الشعراء الذاتية لكنّ جوان مختلف، ويستمر بالاختلاف كتاباً إثر آخر، يرشدك بدكتاتوريته لتقرأ النص كما كتبه هو، لا كما تريده أنت أن يكتب، فهو رجل الكتابة السمراء الرمادية، فنادراً ما تجد نصاً ملوناً لدى جوان، فهو يكتب بالأسود على ورق رمادي، كما إلهه في هذا النص: «في ظهيرةٍ مسمومةٍ، رسم الإله ضفافاً من دون لون على ورق عظيم استحضره من الغيب، حمل الفرشاة وخلط الألوان، (برغبةِ طفلٍ متوحدٍ خلطها)، سها عن البياض وجعل حياتنا (التي هي امتدادٌ لحياته) سوداء! » – قصيدة «الكآبة». ولكن قلبه وحده هو الأبيض الممرغ بحبر الأيام. مع أن دخول جوان في دوامة اليوميات والتفاصيل، والإيعازات المباشرة عن الحياة، ستبدو إذا تكررت في أكثر من عمل، أنها ابتعادٌ عن الشعرية، حتى وإن حاول – من وجهة نظره – مع من يتبنى هذه الوجهة، أن ينبشوا الشعر من كل تفاصيل الحياة، لكن هل هذه الشعرية قابلة لأن تضيف لعالم الشعر مساحةً أوسع أم إنها تفتح الباب أمام أنصاف الجهلة ليملؤوا حيطاننا خربشاتٍ عن ترهات حياتهم وأفكارهم الضحلة، لا يعرّف جوان «كتاب الأشياء» ككتابِ شعر، بل يترك النوع خالياً، وهو ذكاءٌ منه حتى لا يقع مع أشيائه في محط التصنيف، مع إن آراء النقاد التي أودعها على خلفية غلاف الكتاب تتحدثّ عن قصيدةٍ وعن شعر، حتى إن «يحيى وجدي» من مصر يكتب «هذا أكثر كتابٍ مكتمل قرأتهُ مؤخراً» مع أنني أرى أن الابتعاد عن الكمال هو الجمال، فالنقص استمرارٌ وسعي، والاكتمال انتهاء، ومبكرٌ أن تعلن قصيدة جوان تتر نهايتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن