ثقافة وفن

نزعةٌ إلى الإنسانية

| د. نبيل طعمة

الواقعية العاقلة، لأنّ الحزن والغموض اللذين يتفرد الإنسان بامتلاكهما يهدمان الحدود، ويثيران التشاؤم والصدود، بدلاً من ارتسام البسمات والسعادة على الشفاه والوجوه، إضافة إلى التوق الدائم إلى مثلٍ أعلى، وعلى الرغم من عيشه في عالم واقعي، إلا أننا نجده نزّاعاً إلى أن يحلم بعالم آخر من الفرح والوضوح والجمال والكمال، وأيضاً نجده يجمع إلى السّأم والضجر خيالاً يسعى من خلاله للخروج مما هو فيه.
ألا تتوافقون معي في أن الإنسان بمجمله يود أن يكون غير ما هو عليه، بحكم أن سمة إنسان تسمح بالتخيّل وتحويل الأحلام بعد صياغتها إلى وقائع، فكلما تعاظمت أفكار الخيال ازدادت همومه، وتعاظم استياؤه، وللإنسان في مجموعه مطامح موزعة بين الأفراد والمجتمعات والأمم، وفي كثير من الأحيان تكون جديرة بالإكبار، إذا اتصفت بالثقافة الإنسانية والوطنية الحاملة للنبل والشرف والوفاء بالعهود، هذه التي تُعمّم الأثر، وتترك أطيب الثمر، الذي يتغلغل في الذاكرة، لأنه على تضاد مع الغدر ونكث العهد، الذي يضعف الثقة بين الناس.
من أجل تطوير النزعة الإنسانية، إنني أتجه معكم إلى امتلاك المعرفة، ولو بطرف من كل علم، واكتساب لمعة من كل لون، ويعود شمّ الأزاهير والورود، أي تذوق الجمال وفهم كنه الموسيقا، التي تفي من دون معرفة العزف على الأوتار، فبهذا وذاك ترقّ النفس وتتقوى الذات، ويتحرك الفرح، ليتحول الإنسان إلى كائن إلهي في عالم تسوده المادة والخطيئة.
السؤال الدائم الذي يكاد يكون من المتعذّر الإجابة عنه، يكمن في من نحن؟ وأقصد المتكوّنين من الجنس الإنساني، لماذا كان الإنسان أول مخلوق غامض وعبوس مزمجر ومتمرد حزين، كما أنه متفرّد عن باقي المخلوقات، التي لا تعرف سوى حركات القطيع، ومن هذا الجنس حضر الإنسان الرضي المشاكس، الفقير والغني، القائد والتابع، وهنا أقول: إننا على أتمّ اليقين في أننا فقدنا شيئاً من سبل السعي المجرد وراء النجاح، أو من البناء، أو حتى من قدرتنا على بناء تكويننا، وهذا يولّد لنا سؤالاً آخر، هو ماذا فقدنا؟ أو أين النقص الحاصل فينا؟ وهنا تظهر إجابة غير واضحة وقابلة للنقاش، فأثناء بحثنا عن النقص ندرك أننا أضعنا بعضاً من أنفاسنا، هذه التي تنسينا كمية الخطر المحدق بنا، وتدخلنا في دائرة الحزن والغموض، حيث نعود إلى الذاكرة المسكونة فيها طبيعتنا الإنسانية، التي تطالبنا بجرد الخسائر نتاج لهاثنا خلف الأحلام المحمولة على أجنحة الرياح السريعة، التي لا تتقبل المقاومة، وتسرّع دخولنا إلى عمليات المساومة.
إذاً كيف يكون السبيل إلى أن ننظم حياتنا البشرية التي لا مديد لها، ونقدر أن نعمل في سلام، ونصبر من أجل أن تكون نتائج إيجابية، ونحيا بسعادة، هل ممكن هذا؟ ألا يتضح للعاقلين أن المادة الجاذبة هي التي تحكم العقل؟ فهي التي تثير مشاعر الحب والكراهية والقتل والفعل ورد الفعل، وأن أكثر الناس إنسانية ليسوا بفضل عقلانيتهم، لكن لأن لا عقلانية تحكمهم، أي تمردهم عليها ورفضهم أو كبحهم للشهوة المتجهة إليها.
هل نحن مؤمنون؟ تصدق الأقوال أنّ لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ولا نجاح، إن لم يجهد من يريد الوصول، وهنا أؤكد أن لا إنسان كاملاً، فكل فيه نقص الجاد، يسعى لإكماله رغم أنّ الوصول إلى ذلك صعب المنال.
هل الإنسان حقيقة مفتاح الوجود وقفله؟ وهل يقدر على أن يتفكر بحريته التامة؟ أم إنه يشعر بأنه مراقب من كل ما يحيط به؟ إذاً متى تصادر الأفكار؟ هل صحيح لحظة اصطدامها العلمي أو السياسي أو الديني بالآخر المعترض عليها؟ أليس الآخر إنساناً ومركزاً؟ ما معنى مملكة الفكر؟ أليس فيها يتم استخراج النتائج المفيدة والمؤذية في آن؟ أم نقول: إن فكر الإنسان حر، ما دام بعيداً من المماحكات السياسية والدينية، وبقي ينتج في إفادة الآخر، فلا يقع عليه اتهام، ولا يجرم أو يدان؟
هل يقدر الإنسان الهروب من حزنه، ويعتبر أنّ في صمته مصدراً لنشوته التي تطهره من آثامه؟ هل يستطيع تمجيد الصمت؟ لأن من لم يكن به يملؤه الفضول، وتركبه الأسئلة، وتشغله عما يريد مفردات أريد المزيد وعدم الاكتفاء، فيقع فيما لا تحمد عقباه.
هل نستطيع أن نؤسس تاريخاً جديداً، نبدؤه بالنزوع لتأسيس إنسانية جديدة؟ حيث كنا وما زلنا حيارى في معرفة الطريق إليها، إنما حريٌّ بنا أن نعتبر من التجارب السابقة التي عاناها أسلافنا، وما عاصرته أجيالنا.
هل أغالي في الافتراض، وأنا أبحث في الغايات والأهداف، ونسبتها إلى الحياة؟ فمجرد محاولة البشر الإجابة عن هذا الافتراض يتشكل النزاع حوله، وتُنشأ الحيرة تجاهه، حيث تنقسم البشرية إلى قسمين، الأول هدف إلهي أقامه الله لجماعة من البشر، والثاني هدف إنساني يتعين على البشر أن يقيموه لأنفسهم وفيما بينهم، وليس في عقلي أن أحاكم القسم الأول من السؤال، لأن كل شيء يجول في خاطر الله، إنما يفيض كضرورة من عقولنا نحن، وهو تخيّل من عقلنا لما هو موجود في عقل الله. أما القسم الثاني فهو نقطة الخلاف والاختلاف الدائمة حول غاية الحياة الإنسانية، وما يجب أن تكون عليه، وهنا أوضح أنه لا تشغلني كلمات الحزن أو الفرح أو السعادة، بقدر ما يشغلني موضوع الخلاص الإنساني، الذي لن نصل إليه إلا بالخلاص، فالسعادة الإنسانية حالة حسية فردية، تسكن البيولوجيا، وهذه يؤيدها العلم تأييداً بالغاً، وهذا يدعونا للتفريق بين سعادة العقل ومباهج الجسد، التي ترسم ألوانها عليه.
هل يستطيع أيُّ إنسان أن يحبّ امرأة روحياً، من دون أن يحبها جسدياً؟ مؤكدٌ لا، فالحب علاقة مزدوجة بين المادي واللامادي، فالحب يشبه الجنون، والجنون يعبث بالعقلانية، ليغدو الإنسان عاهراً، إن لم نكن نحن الإنسان كذلك فمن نكون؟ والعهر لا أعني به الدعارة، فكل متميّز عاهرٌ، وإلا لما كان هناك إبداع، فالإبداع شطح، والشطح خروج عن المألوف، والدعارة غير الزنى، والزنى كل ما أخذ غصباً، أو بطريق الخداع والمكر والمراوغة، وبهذه الكلمات القذرة يغضب الإنسان ويحزن ويفقد سروره ومرحه وسعادته، وإن حدثت فستكون صفراء لا نقاء فيها، لأنها تفتقد الحب، ومعه يجب أن يتحرك الوجدان الذي يترجم التشارك في حياة المجتمع، وتحمله لأعباء التقدم والتطور وتجسيد الإحساس والشعور بالمسؤوليات الجسام.
هل يمكننا تحقيق الامتزاج المدهش بين الولاء للجسد ولغة الروح؟ وأقصد بين الروحانية المؤمنة البعيدة من التزهّد والمادية البريئة، التي تبدأ بالشهوة وتنتهي باللقاء الأمين الذي ينجز الامتزاج، حيث تتعانق معه الحواس والروح، في تناغم واحتواء يحضر من رغبة حواء ورجولة آدم الفنان.
هي نزعة إلى إنسانية جديدة واقعية، يكون الله في جوهرها، كما أراد وأردنا، كي نرى الحياة، ونعمل بجدٍّ وإخلاص لها، نقارب فيها مفاهيم سهلة ومركبة، تزيد التأمل وترفع الوعي والإدراك، وتفسح المجالات لولادات فكرية نوعية، تأخذ بنا إلى بداية، بعد أن حدث ما حدث من اضطراب في العقول، أظهرنا أننا نحيا عصور ما قبل المعرفة؛ أي في مرحلة الشيئية، التي كانت تساوي بين جميع المخلوقات الحية، وأخصُّ منها الدابة على الأرض، طبعاً من الدبيب، إلى أن عرّفها الإنسان، وعرف أنه إنسان، وعندما تخلى عن إنسانيته انتقل إلى بشريته، إلى منطق البشر، الذي يعني بدء شر، هل لنا أن نذهب لنحاكم عقولنا، ونستوي إلى طريق؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن