ثقافة وفن

المقاهي الأدبية في بغداد … شكلت الذاكرة الثقافية والاجتماعية والسياسية منذ بداية النهضة الفكرية

| د. رحيم هادي الشمخي

كثرت المقاهي الأدبية في بغداد أواخر الأربعينيات من القرن الماضي وأصبحت ظاهرة اجتماعية عراقية، حيث اللقاءات اليومية بين الأدباء والشعراء وكاتبي القصة، كتاباً وشعراء ونقاداً وباحثين وغيرهم.. تدور بينهم النقاشات اليومية الجادة، بينما يشترك الكثير منهم وبشكل مستمر بمختلف الشؤون الثقافية والسياسية.

كانت المقاهي الثقافية المكان المناسب للمثقفين والسياسيين وشرائح اجتماعية واسعة من أبناء الشعب، وأصبحت عبارة عن مدارس تعلم فيها الأدباء والشعراء الكبار الكثير من العلوم والمعارف من خلال الحوارات التي تعقد فيما بينهم، وهم يجلسون على أرائك خشبية أمام السماورات التي يغلى فيها الماء ويخدر منها «الشاي المهيل» وشاي الدارسين وشاي الحامض وشاي الكجرات الحامض وشرب الأركيلة لدرجة أن قسماً منهم يلقي أشعاره وهو يلعب الطاولة أو الدومينو، ولم توقف ضوضاء زبائن المقاهي ولعب الدومينو والطاولة وصخب المارة وأبواق السيارات، هذه المقاهي من الحوار الجاد المتبادل بين المثقفين والتباحث في أمور الحياة الأدبية والسياسية وتفاصيلها.
لقد شكلت المقاهي الأدبية، ذاكرة للثقافة العراقية، وأصبحت الوسط الذي يخرج منه ألمع المثقفين العراقيين الذين ساهموا بنشاط في المشهد الثقافي بإبداعاتهم الخلاقة، فلقد لعبت المقاهي الثقافية دوراً ثقافياً واجتماعياً وسياسياً منذ بداية النهضة الفكرية وأصبح لها دور مهم في حياة المثقف العراقي، حيث خرجت منها المحاولات الأولى لتطوبر القصيدة العربية والشعر والمدارس الحديثة للفن التشكيلي والنحت.
ومع تقدم الوعي الاجتماعي والسياسي وتأسيس الأحزاب السياسية الوطنية العراقية وبتأثير الثقافة الغربية واليسارية وخاصة بعد ثورة عام 1958 التي انتشرت في العراق في تلك الفترة أصبحت المقاهي مراكز تجمع لرجالات الأدب والسياسة والفنون على حد سواء، وأصبحت أشبه بالأوكار لنشر المدارس الفكرية الجديدة والأفكار السياسية الوطنية التي كانت تخشاها الحكومات العراقية المتعاقبة في تلك الفترة، حيث كانت الوظيفة السياسية لهذه المقاهي هو التصدي لمخططات الاستعمار البريطاني، بوصفها مكان تجمع لأغلبية المثقفين من شعراء وأدباء وفنانين وسياسيين،.. لذلك ارتبطت المقاهي في العراق بأبرز الأسماء الأدبية والسياسية والاجتماعية المعروفة.
وكانت أكثر هذه المقاهي في «شارع الرشيد» تيمناً باسم الخليفة العباسي هارون الرشيد، وبمرور السنين أصبح لهذا الشارع حصة الأسد من المقاهي الأدبية الشهيرة، إذ قامت على جانبيه كل من مقاهي: الزهاوي، حسن عجمي، الواق واق، البرازيلية، ياسين، شط العرب، البلدية، البرلمان، المعقدون، الشابندر، الرشيد ومقهى الغناء أم كلثوم، سمر وغيرها الكثير، واعتبر هذا الشارع ومقاهيه المنتشرة على أماكن مختلفة من جانبيه المكان الذي تنطلق منها تظاهرات الأحزاب والقوى الوطنية العراقية والمثقفين والسياسيين ضد الهيمنة البريطانية والحكومات المتعاقبة طوال سنوات طويلة حتى قيام ثورة 14 تموز عام 1958، ومن أبرز الشخصيات الثقافية التي غذت الحماس الوطني وألهبته مع بدء ثورة العشرين في 30 حزيران 1920 الشاعر والخطيب المعروف محمد مهدي البصير، وفي الثلاثينيات من القرن الماضي كان ينطلق من مقهى «عارف آغا» المثقفون والوجوه الوطنية المعروفة ليشاركوا في التظاهرات الوطنية والاحتفالات التي يحييها الشاعر معروف الرصافي، وكثيراً ما غنت كوكب الشرق أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد القبانجي في مسارح هذه المقاهي التراثية وفي كل مقهى خشبة مسرح «التخت» البغدادي الذي تحيا الحفلات البغدادية عليه، كما ألقى شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري والرصافي والزهاوي وغيرهم من الشعراء القصائد الشعرية في هذا المكان، ولا ننسى أن الشاعر أحمد رامي قد نظم قصيدة للسيدة أم كلثوم من مقهى «البرلمان» في شارع الرشيد ولمقاهي بغداد طعم خاص في الثقافة والأدب والإبداع، وقراءة الصحف والمجلات العربية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن