قضايا وآراء

الثالوث المهدم

| محمد نادر العمري

مما لاشك فيه أن تفعيل العقوبات والحصار الاقتصادي في تاريخ العلاقات الدولية الحديث بشكل أحادي أو جماعي تجاه دولة ما أو أكثر، تترك آثارها السلبية على مجمل جوانب الحياة لهذه الدولة أو الدول سواء كان ذلك بالنسبة للأنظمة السياسية الحاكمة التي تتعرض مؤسساتها لتراجع ملحوظ مع الزمن في أدائها وتقديم خدماتها وتجفيف منابع مواردها النقدية من العملات الأجنبية، أم بالنسبة للمستوى المعيشي للمواطنين الذين أثبتت التجارب السابقة كافة أنهم أكثر وأسرع تأثراً بصورة ملموسة للنتائج السلبية وانعكاساتها عليهم، كما أنه من الناحية النظرية فإن تزامن العقوبات الاقتصادية أو الحصار مع تعرض دولة لحرب طويلة لها بأشكال وأساليب متعددة ومتنوعة تشكل واقعاً أكثر استنزافاً بكل المقاييس.
فضلاً عن أن ترافق ذلك مع وجود طبقة أو فئة تدعى «تجار الحروب والأزمات» والفاسدين قد يشكل ثالوثاً خطراً وهداماً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى للدول المعتدى عليها، من خلال التكفل في تكامل الأدوار المنوطة بهذا الثالوث وبما يتناسب مع مصالح الدول المعتدية، فالحروب من شأنها نشر الفوضى وغياب الأمن وتدمير البنى التحتية… إلخ، وهي جميعها عوامل استنزاف وتراجع للنمو الاقتصادي، والحصار والعقوبات بأشكالها المختلفة تشكل طوقاً خانقاً للدول والمواطنين في الحصول على الخدمات والمواد الضرورية، وتشكل في بعض الأحيان تعامل الدول مع الخارج في تجفيف منابعها ومواردها من العملات الأجنبية التي تشكل وسيلة التعامل في التصدير والاستيراد في العلاقات الاقتصادية بين الدول، وتجار الأزمات هم من يغتنمون هذه الظروف لتحقيق مصالحهم على حساب دولهم ومواطنيها وهم أشد خطراً في كثير من الأحيان، فما لم تحققه الحرب المباشرة أو غير المباشرة من أهداف، قد تحقق جزءاً منه العقوبات والحصار الاقتصادي، وما عجزت عنه الوسيلتان السابقتان قد تتكفل به فئة تجار الحروب والفاسدين، لذلك هي الأخطر لأنها تمثل الوسيلة الأمثل والأفضل للدول المعتدية التي تعمل جاهدة على تأمين الظروف والمناخ المناسب لها لاستهداف الدول من الداخل وبتكلفة أقل من الحروب والتدخل المباشر، وفي حال نجاحها تتحول للوبيات ضاغطة ومؤثرة في داخل هذه الدول وقد تصل للسلطة كما هو حال لبنان بعد الحرب الأهلية وكذلك العراق بعد الغزو الأميركي وليبيا بعد 2011.
هذا التوصيف بات اليوم يشكل تكتيك الولايات المتحدة الأميركية في صراعها مع محور المقاومة أو الدول الصاعدة بما في ذلك روسيا والصين، ضمن ما يسمى «الجيل الخامس للحروب» بسبب عدم قدرة واشنطن على حسم الصراعات العسكرية بشكل مباشر وحاسم لمصلحتها، ولا تفضل الحلول السلمية للأزمات المفتعلة لأن ذلك يدفعها للاعتراف بدور وتأثير الدول الصاعدة.
بمعنى آخر وفي إطار الحرب على سورية، على سبيل المثال لا الحصر، تقفز الولايات المتحدة على حبال المواجهة وتتنوع أساليب تعامل إدارتها مع الملف السوري ما يتناسب مع التطورات والمتغيرات التي تشهدها كل مرحلة، فتارة تدعم المجموعات المسلحة وتمنحها الغطاء السياسي وتشن عمليات عدوانية مباشرة بذرائع مصطنعة وتهدد باللجوء لها، وتذهب في بعض الأحيان نحو تعقيد الوضع الميداني لخلط أوراق التفاهمات كما في منحها الضوء الأخضر لتركيا لاجتياح الشمال السوري، وتارة نجدها تمارس الضغوط المباشرة على وفود المعارضة أو الدول الداعمة لها في الاستحقاقات المتعلقة بالأزمة السورية، وتارة أخرى تلجأ للمنظمات الدولية بذرائع إنسانية للضغط على سورية وحلفائها تحت مسمى «حماية الشعب السوري» وهي تمارس أقصى أشكال الحصار والعقوبات عليه، كان آخرها إدخال «قانون قيصر» حيز التنفيذ لاستهداف الشعب ومعاقبته قبل الدولة السورية.
عندما يتم التأكيد بأن المستهدف هو الشعب السوري، فهذا الكلام ليس إنشائياً ولا تملقاً ولا توصيفاً بعيداً عن الواقع، بل هو جوهر الهدف الأميركي الذي يريد وضع السوريين بين فكي كماشة، إما وقف دعم الدولة السورية وإحداث تغيير عبر الفوضى أو تغيير المزاج الشعبي أثناء الانتخابات القادمة، أو الحصار الخانق والمعاقبة.
وهذه المقاربة هي ذاتها التي قدمها وزير الخارجية الأميركي مايك بامبيو للشعب اللبناني في آذار العام الماضي: «إما أن تعزلوا حزب اللـه أو أنكم ستواجهون العقوبات».
وهذا يأتي في إطار وأساليب أشكال حروب الجيل الخامس التي تعتمد في الدرجة الأولى على افتعال الأزمات داخل الأزمة، ونشر الإشاعات واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للترويج أن الدولة عاجزة عن تلبية وتأمين حاجات مواطنيها وخاصة السلع الأساسية ومصادر الطاقة المستهدفتين بشكل أساسي، إلى جانب قيمة العملة لإحداث نوع من تخلخل العلاقة بين المواطنين والدولة ودفعهم نحو الفوضى، وهنا تتوافر البيئة المناسبة لفئة تجار الأزمات والفاسدين الذين يعتبرون من الركائز الأساسية ضمن حروب الجيل الخامس لتوسيع دور لهم في المضاربات المالية والحصول على السلع واحتكارها نتيجة قدرتهم المالية وشبكة علاقاتهم مع بعض الفاسدين، ومن هنا يمكن فهم العلاقة التكاملية بين الحرب وآثارها المدمرة والحصار الاقتصادي وتأثيراته السلبية وتجار الأزمات والفاسدين الذين يشكلون ثغرات داخلية مهدمة ومؤججة ولو لم يكونوا على علاقة مع الدول المعتدية.
السؤال الأبرز اليوم وبعيداً عن إلقاء اللوم على أحد: ما الهدف الأميركي من ذلك وما لنا من دور في المواجهة؟
الهدف الأميركي لم يعد خافياً على أحد ويحمل عنواناً عريضاً يتمثل بتغيير النظام السياسي أو تغيير تحالفاته وموقفه بأي وسيلة كانت، وهو ما أفصح عنه المبعوث الأميركي لسورية جيمس جيفري عندما قال: «إن الهدف من «قانون قيصر» هو إحداث تغيير جذري في بنية النظام السوري»، مهدداً في السابق بأن إدارته لن تسمح للدولة السورية من استثمار انتصاراتها العسكرية على الصعيدين السياسي وإعادة الإعمار، ومن ثم فإن عرقلة الحل السياسي والضغوط في المحافل الدولية والتباكي على الشعب السوري وتوظيف الملفين الإنساني والكيميائي، ووضع عراقيل أمام دخول الدول والشركات للمساهمة في إعادة الإعمار، ما هي إلا مجرد تكتيكات تخدم الهدف الأميركي.
أما فيما يتعلق بما لنا من دور في المواجهة، أعتقد ومن وجهة نظر متواضعة بأن هناك شقين في الإجابة عن ذلك:
الشق الأول يتمثل في تفعيل دور المبادرات المجتمعية والتحلي بالحذر والتكافل والصبر، وعدم الانجرار خلف سلوكيات ترفع مطالب محقة في العيش الكريم وتأمين المستلزمات الحياتية ولكن توظيفها فوضوي، فالمظاهرات حق للتعبير عن آراء ومطالب المواطنين ولكن ما حصل سابقاً في الداخل السوري وما يحصل اليوم على مستوى الإقليم في لبنان والعراق، هدفه إتمام شل حركة الدولة وتعميم الفوضى، وفي الوقت ذاته على طبقة تجار الأزمات والفاسدين أن يعوا بأن ما حققوه في السنوات السابقة من امتصاص لدماء الشعب السوري واستغلال الفوضى وغياب المحاسبة نتيجة اعتبارات تتعلق بمحاربة الإرهاب، قد ذهب هباء منثوراً في المصارف اللبنانية.
الشق الثاني والمتعلق بالأداء المؤسساتي: ويتجلى ذلك في تفعيل وتطبيق الكم الهائل من القوانين التشريعية التي من شأنها الحد من جشع تجار الحروب ونفوذ الفاسدين والمرتشين والمتخاذلين والمتقاعسين وفي الوقت ذاته تزيد من ثقة المواطن بمؤسسات دولته، وتخفيف حجم الضغوط اليومية ابتداء بالنقل وصولاً للحصول على المواد الأساسية ما يضمن الحفاظ على كرامة المواطنين من خلال مراجعة آليات التوزيع التي تضمن ذلك.
كما أن الحد من نفوذ ودور الفاسدين وتجار الأزمات من شأنه أن يشجع الشركات والدول الصديقة والحليفة بأن تدخل سوق الإعمار وتحسن من النمو الاقتصادي، فعودة الأمن والأمان وإيجاد طرق إلتفافية على العقوبات هي عوامل جاذبة وإيجابية ولكن ليست كافية في ظل وجود عنصر مهدم ومهدد لمصالح هذه الشركات التي تبحث عن ضمان منافعها ومصالحها أيضاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن