من دفتر الوطن

شكراً.. «غوار» المتواضع!

| فرنسا- فراس عزيز ديب

من الطبيعي وأنت تتصفح العالم الأزرق أن تصادف مئات التصريحات لفنانين أو أدباء وسياسيين ورياضيين، قلة هي التصريحات التي تستوقفك، ونادرة هي التي تدفعك للكتابة عنها، منها مثلاً التصريح الذي يقول فيه صاحبه:
«لم أقدم العمل الذي أطمح إليه حتى الآن». في البداية ستعتقد بأن مطلق تصريح كهذا هو فنان ما زال يبحث عن ذاته أو في بداية الطريق، لتكتشف فجأة بأن مطلقه هو الفنان الكبير دريد لحام، هنا تتساءل باستغراب:
إذا كان صاحب تلك القامة الفنية التي حفرت بإبداعها في عقول أجيال وأجيال في العالم العربي قاطبةً لم يؤد العمل الذي يطمح إليه حتى الآن، فماذا عن أولئك الذين يظنون أن آلاف المتابعين على صفحات التواصل الاجتماعي هو دليل نجاح أو الذين يعتقدون أن الاعتراف بالخطأ أو التقصير هو انكسار لا يجوز التعاطي معه ولو من باب التواضع؟
أعتقد جازماً أن الرجل أراد ببساطة أن يعطي لكل من يكسب رزقه من موهبة ما (فنية، رياضية، أدبية) درساً عملياً بكيفية السعي إلى النجاح، عبر احترام الإنجازات التي تحققت لا الاستثمار بها لتبرير السقوط، فالحياة العملية لا تتوقف والعطاء الناتج عن استثمار الموهبة يجب ألا يكون له نهاية، تحديداً أن الوصول للقمة يبدو سهلاً لكن ما ليس سهلاً هو الحفاظ عليها.
لكنه بالوقت ذاته يعطي درساً أكثر قوة يفتقده ربما الأغلبية الساحقة من هؤلاء، درساً في التواضع وبمعنى آخر النظرة لما تحققه من إنجازات بتواضع الواثق من تحقيق المزيد، لا غرور من ظنوا أنهم أتموا تحقيق ما يطمحون إليه من أهداف.
ربما قيل الكثير في تفسير التواضع والإشادة به، من بينها اقتباس الكلمة من تواضع الأرض لتتساوى مع المنحدر وصولاً إلى سعي المتواضع نفسياً للبعد عن القسوة والميل إلى اللين، لكن مشكلتنا اليوم لا تبدو عملياً في التواضع كقيمة إنسانية لا يدركها إلا من يحترم ذاته قبل احترام الآخرين، المشكلة تبدو في النظرة للمتواضع، تحديداً إننا في زمن تختلف فيه المعايير وتتصادم فيه القيم، زمن الصورة ولو كانت مهينة، لا زمن الكلمة ولو كانت طيبة. زمن الفيديوهات ولو كانت بألفاظ نابية فهي لديها ما يكفي من جمهور، لازمن الفكرة ولو كانت تخاطب الوعي، فمخاطبة الوعي اليوم باتت «دقة قديمة»، لتنجحوا عليكم مخاطبة الغرائز بشتى أنواعها. وسط هذا الانحدار الذي نعيشه باتت الأغلبية ترى المتواضع بعين الخفة أو كما يحلو للبعض أن يقول بأن للشهرة بريستيجاً لا يمكن تجاوزه، ليبدو المتواضع كمن يكسر هذا البريستيج ويغرد خارج السرب، هل تذكرون تلك الأيام التي كان المتواضع فيها يحسد على ثقته بنفسه؟
في الخلاصة: قيل سابقاً في المثل العامي «اللي ما عندو كبير يشتري كبير»، كلام الكبار وتصرفاتهم وحتى نظرتهم للحياة عندما تصلنا من دون تعب علينا أن نحمد اللـه عليها، لأنها ببساطة تشكل دروساً مجانية في هذه الحياة، فالتواضع عملياً أصناف ولعل أكثره خطورة وقسوة هو ذاك التواضع الفكري الذي يجعلك تتقبل جميع الأفكار، هو من أرقى أنواع التواضع لأنه الوحيد الذي سيساعدك على اكتشاف أخطائك العملية والعلمية، هو الوحيد الذي يمكن له ببساطة أن يهذب نزعة الفوقية أو التعالي لديك فيجعلك تتعاطى باحترام مع من حولك بما فيه آراء الآخرين، على هذا الأساس شكراً للأستاذ دريد لحام، أو بصورة أحب إلى قلوبنا:
شكراً لـ«غوار» المتواضع، أعطيت من يهمه الأمر درساً في التواضع، ألم يقولوا يوماً شكراً لمن أهدى إلينا عيوبنا.. فما بالك بالذي أهدانا.. عصارة النجاح؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن