ثقافة وفن

دمشق تودّع محمد بشير زهدي أمينَ متحفها الوطني … أسس متحف الآثار الكلاسيكية ضمن المنظومة السورية التي حفظت الوطن والإنسان

| سوسن صيداوي- تصوير: طارق السعدوني

للجمال علم، وللأثر تاريخ، ولرواد الأخير رُسل لمَستهم الحضارات بسحرها، ليدركوا غناها ويتمسّكوا بمكنوناتها المتنوعة من الجذور. وكما هو الأثر في قيمته وفي أهميته التي تمتد لآلاف الأعوام، كذلك أصبح حال من نَذر نفسه للموروث الحضاري وخاصة أنه بذل كل جهده ومساعيه، مع النهل والتنقيب عن النفائس عبر الأبحاث والدراسات المتنوعة.
والحديث ننسبه لعالم الآثار السوري وأمين المتحف الوطني بدمشق الدكتور محمد بشير زهدي الذي نعته كل من وزارة الثقافة-المديرية العامة للآثار والمتاحف والأوساط الثقافية والإعلامية، فلقد غادرنا صباح يوم الجمعة الفائت، ليوارى جسده الثرى في مقبرة الشيخ رسلان.
د. زهدي شعلته الإبداعية تنوعت بين التأليف والبحث مع الرسم والألوان، في مسيرة معطاء دامت لأكثر من خمسين عاماً، برز نشاطه خلالها مع إضافات في التدريس والإدارة وعلى الخصوص للمتحف الوطني بدمشق، فرغم توالي الأشخاص لإدارته إلا أنه كان بينهم الأكثر اجتهاداً، كيف لا وهو واحد من رواد أساتذة التاريخ والآثار وعلم المتاحف والجمال. اليوم في وداعه نقف عند محطات وإضاءات مع سيرة ذاتية للراحل، إضافة إلى ما قالوا عنه في تكريمات سابقة.

في النشأة والدراسة

ولد د. زهدي في دمشق حي الجسر الأبيض عام 1927. من أسرة دمشقية متواضعة تميّز أبناؤها في مجالي القضاء والتأليف. أكمل الراحل تحصيله الابتدائي والثانوي بمدارس دمشق، وعمل في التعليم عدة سنوات، وبعد تخرجه في كلية الحقوق عام 1951، أوفد إلى فرنسا للتخصص في علوم الآثار والمتاحف وعلم الجمال، ونال في نهاية دراسته ليسانس الآداب من السوربون عام 1954، ثم دبلوم معهد «اللوفر» عام 1955، وكان موضوع تخرجه «بناء وتنظيم المدن السورية في العصرين الهلنستي والروماني»، وبعد عودته لسورية الوطن عهد إليه بأمانة متحف الآثار الكلاسيكية، ثم كلف مديراً للمتحف الوطني في دمشق عام 1981، إضافة إلى عمله بالتدريس بكلية الآداب وكلية الهندسة والفنون الجميلة بجامعة «دمشق».
عكف الدكتور«زهدي»على البحوث والتأليف طوال سنوات مسيرته، فقاربت دراساته 150 دراسة علمية نشرت في كبريات الدوريات المتخصصة في أقطار عديدة، وكان له مشاركات في أكثر من 15 مؤتمراً دولياً عن الآثار والمتاحف، ونشرت محاضرته في «ميتمرات تاريخ الزجاج» بمجلة «حوليات الجمعية الدولية لتاريخ الزجاج» بمدينة «لييج» البلجيكية- باللغة الفرنسية، وكان العربي الوحيد الذي نشرت بحوثه في هذا الميدان، إضافة إلى دراسات أخرى بالفرنسية تتعلق بتكبير الصورة.

وعن حب دمشق
عرف عن الآثاري د. بشير زهدي عشقه المزهو دائما لدمشق، فبعد دراساته في الخارج لم يغادرها بل بقي فيها مؤمنا بصمودها وتصدّيها مهما حصل وكيفما تكدّر الزمن، ليقول عن دمشق في حوار له: «هذا الحب هو حب للتراث العربي، الذي يتميز بغناه فلا أستطيع إلا أن أكون محباً ووفياً لهذا التراث بالإضافة إلى أن نشأتي وولادتي في دمشق جعلتني أحب وأعشق دمشق وأحياءها الجميلة، هذه المدينة القديمة، بيوتها، ومبانيها الأثرية. المختلفة دمشق مدينة ستتميز بالصمود والاستمرار فهي من المدن المعمرة والمسكونة والمأهولة في مختلف العصور.
غزاها الكثير من الجيوش الغازية وغادروها وبقيت دمشق كما هي، وتحولت تلك الفترات إلى مداخل وتاريخ يروى. فهي تستوعب القادم بسعة صدرها وأسلوب حياتها وحضارتها العريقة، التي جعلتها تستمر في مختلف العصور، هذه العصور التي تشكل في مسيرتها حقول تاريخها المجيد المزدهر، فهي المدينة العربية المتجددة الشباب، إضافة إلى الحياة الاجتماعية الغنية في دمشق المبنية على التعاطف والمحمية بين المواطنين».

قالوا في الراحل
في إحدى الندوات التكريمية للباحث محمد بشير زهدي كان للباحث محمد مروان مراد مداخلة تحدث خلالها عن جوانب لشخصية وطريقة تفكير الراحل، ليقول مراد: «يرى الأستاذ زهدي أن المحافظة على التراث الثقافي للأمة سبيلها لتربية جيل جديد محب لتراثه، وواع لما يمثله من أهمية بالغة في تاريخنا في الماضي والحاضر، ومثابر على حمايته وصونه ليكون ركيزة في بناء النهضة والتقدم الذي نطمح اليه، وقد التزم (زهدي) بهذا المبدأ في كل أعماله الجميلة التي تألقت دوماً في المعارض الفنية التي أقيمت بالمراكز الثقافية السورية، ولقيت حفاوة وترحيباً من المثقفين والنقاد وعشاق الجمال. كان الباحث الفنان في كل المجالات التي عمل بها، مثلاً في التفاني والإخلاص، لم تذهب جهوده وعمله الدائب في خدمة الوطن عبثاً، بل توّجت منجزاته بالتكريم في العديد من المناسبات، وقد منح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام 1999، وسام الجمهورية الإيطالية برتبة فارس (شوفالييه)، ووسام الجمهورية الفرنسية بدرجة ضابط (أوفسييه)».
في يوم الأربعاء الواقع في17/9/2014، أقام اتحاد الكتاب العرب في دمشق تكريما لرائد الآثار بشير زهدي، وكان للأستاذ الراحل محمد خالد حمودة كلمة سنذكر بعضاً منها…. تتوقف العين عند الغرفة القابعة في يمين مدخل المتحف الوطني اليوم، والتي كان يؤمها أحد الرجال الذين أفنوا عمرهم وزهرة شبابهم في خدمة هذا المعلَم الذي لا يضاهيه معلَم آخر في العالم، وهنا أجدني أقول:إذا كان الصمت في حرم الجمال جمالاً؛ فالحديث عن الأستاذ بشير زهدي رائد علوم التاريخ والآثار والفن والجمال أسمى من الصمت والجمال معاً.
سبعة وثمانون عاماً هي حصيلة عمر الأستاذ بشير زهدي اليوم، منها زهاء خمسين عاماً خلت قضاها هناك في المتحف الوطني في دمشق الذي كان بالنسبة إليه موئلَ نفسه ومرتع روحه، كنت كلما ترددت عليه في غرفته في المديرية أو المتحف فيما بعد أُبهر به وبخلقه وعلمه وثقافته وطيبته، كنت أزداد منه وهو يتحدث عن الشام أيقونة حبه الأكبر منذ عهود الفينقيين والآراميين والهلنست والرومان وفيما بعد عن الفترة الإسلامية حتى اليوم، وكان لاهتمامه ببعض اللغات القديمة كالفينيقية والآرامية ما سوَّغ له التوسع في دراساته الأثرية والتاريخية، حيث انطلق منها للميثولوجيا والأساطير والفسيفساء وفنون الزجاج عند بناة الحضارة السورية الأوائل.
وإذا ما تعمقنا بالنظر في متحف الآثار الكلاسيكية الذي أمَّنه الأستاذ بشير زهدي منذ عودته من إيفاده لفرنسا عام 1955 وحتى عام 2001، لوجدنا نتاج عمله الهائل الذي تمثل في تنظيم مجموعات المتحف بشكل علمي وفني، وتدوين مقتنياته عبر دراسات علمية موثقة ومقارنة، لأنه كان يرى في المتحف أداة تطوير وتنوير للمجتمع لا مستودعاً لتكديس التحف والآثار، وأنه-برأيه-أقرب لأن يكون جامعة شعبية لكل أبناء المجتمع، ومن ثم فقد أصبح المتحف بفضله مرجعاً يفيد منه كل الباحثين. وفضلاً عما تقدم فقد تخرج كمٌ هائل من طلاب كليات الآداب والهندسة والفنون الجميلة في جامعة دمشق من الذين نهلوا من علومه وخصوصيتها، وعندما كان ينفرد بنفسه في مكتبه، كنت تراه يكرس وقته في مجال البحث والتأليف.

د. زهدي الفنان التشكيلي
لم تكن الكلمة والحرف صديقيه فقط، بل رافقت يومياته التي احتاج فيها الدكتور زهدي للاسترخاء والراحة الريشة والألوان ليستمتع بأشكاله الهندسية التي يرى فيها الدائرة هي الشكل الأجمل، لكونها بنظره شكلاً هندسياً منتظماً ورائعاً جداً، وثانياً هي رمز ديني فيها شيء رمزي، فلا نعرف أين تبدأ أو أين تنتهي. وتجدر الإشارة إلى أن الباحث «زهدي» أحسّ بما للفن من أهمية في حياة الإنسان، وعبر بدوره عن هذا المعنى بقوله: «إن الفن لغة لا بالحروف والكلمات بل بالخطوط والألوان، والعمل الفني يجب أن يكون بتكبير الصورة». ولطالما عبّر عن الفكرة: «للفنان رسالة اجتماعية وثقافية بالغة الأهمية، وهي الإسهام في تحقيق سعادة الناس، لأنها حق من حقوق كل فرد، وهي ليست بضاعة نستوردها، بل هي من صنعنا وإبداعنا».
هذا وقد عُرفت أعماله بالمعاني الأدبية والجمالية والفلسفية التي تحملها، عدا أنها تعرّف بفلسفة الجمال وبمبادئه وبأسسه وبنقده.
وحتى إن أهل الاختصاص من الرسامين والنقاد كانوا يجدون بأعماله بأنها تفتح أبواباً للدلالات على ماهية الجمال في خطوطه الرقيقة وأمثولاته الحية، التي توغل في الأبعاد الحضارية والثقافية، إضافة إلى ترسيخها للقيم الإنسانية، الأمر الذي يرى فيه أهل الاختصاص سبباً لاستحضاره الرموز النسوية وغيرها في اللوحات التي حملت خصب وغنى تفكيره البحثي وتقدمه فناناً تشكيلياً من طراز خاص.
ولأن الرسم بالنسبة له ضرورة، نجح وعرض منجزه الفني في ثلاثة معارض فنية، وعن الفن التشكيلي وعلى الخصوص الرسم يقول العالم الآثاري الراحل: «الرسم ضرورة وله وظائف، فهو يحررنا من متاعب الحياة والمعاناة» وكان يضرب مثالاً بأن تشرشل رئيس وزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، كان يرسم أثناء الحرب وله رسوم نادرة.
في هذا الجانب نقف عند كلمة الفنان التشكيلي د. فؤاد طوبال والتي تقدم بها في أحد تكريمات د. زهدي: «ارتبط اسم الأستاذ بشير زهدي بعلم الجمال وفلسفته وهو من العلماء الذين سعوا في طريق مباحث الجمال في الطبيعة وفي الفن بمقاييسه ونظرياته وعلاقته بالحق والخير والمثل الأعلى ومعاييره ووظيفته وعناصره وكل ما يتعلق بالتجربة الإنسانية في هذا المجال، ولاسيما عند المتصوفة العرب الذين اعتبروا أن الجمال هو النور».
أما الفنان التشكيلي د. نبيل رزوق فتحدث في محوره بإحدى الندوات عن راحلنا: «تعتبر اهتمامات د. زهدي موضع اهتمام لدى الفنانين، وخاصة لما يتصف أسلوبه من بساطة وسلاسة في تناول موضوعاته الفنية ولما يتمتع به من وضوح الرؤية واختصار في المكونات البصرية، فهو يعتمد على تأليف وتكوينات غرافيكية وفق خطوط مستقيمة أحياناً ومنحنية أحياناً أخرى تتضمن عناصر إنسانية ومعمارية محدودة، لينشئ منها حواراً بسيطاً ومختزلاً يتسم بالأجواء الحميمة».

شهاداته
– إجازة في الحقوق من جامعة دمشق 1951.
– ليسانس في الآداب من جامعة السوربون باريس 1954.
– شهادة تاريخ الفن في العصور الوسطى.
– شهادة في تاريخ الفن الحديث علم الجمال وعلم الفن.
– دبلوم من معهد اللوفر في باريس (تاريخ الشرق القديم، علم المتاحف، تاريخ الفن).
الوظائف التي شغلها:
– عُيّن أميناً لمتحف الآثار الكلاسيكية بدمشق 1955-1981.
– عُيّن أميناً رئيسياً للمتحف الوطني بدمشق1981-2003.
– عَمل كأستاذ مُحاضر في جامعة دمشق.
– عَمل مُحاضراً في الجامعة الخاصة للعلوم والفنون بحلب (تاريخ الفن-حضارات وأساطير) 2003-2005.
– عُيّن عضواً في لجنة التاريخ والآثار، ولجنة الفنون التشكيلية في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بدمشق.
مؤلفاته المطبوعة في المديرية العامة للآثار والمتاحف:
– الدليل المختصر للمتحف الوطني بدمشق – قسم آثار العهود اليونانية والرومانية والبيزنطية.
– معلولا المدينة الأثرية والسياحية النموذجية.
– الرصافة لؤلؤة بلاد الشام.
– كنيس دورا أوروبوس في المتحف الوطني بدمشق.
– المتاحف.
– الإمبراطور فيليب العربي.
– علم الجمال والنقد (فلسفة الجمال) مطبوعات جامعة دمشق كلية الفنون الجميلة.
– علم الجمال والنقد (علم الفن) مطبوعات جامعة دمشق كلية الفنون الجميلة.
– تاريخ الفن 1- 2، مطبوعات الجامعة الخاصة للعلوم والفنون حلب.
– حضارات وأساطير، مطبوعات الجامعة الخاصة للعلوم والفنون حلب.
– الفن السوري في العصر الهلنستي والروماني، مطبوعات المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية بدمشق.
– دمشق وأهميتها العمرانية والمعمارية عبر العصور، مطبوعات جمعية أصدقاء دمشق.
– دمشق المدينة العربية المتجددة الشباب، مطبوعات دار الفرقد للنشر.
– حوران موطن الفعاليات الحضارية وأضخم المباني المعمارية، مطبوعات دار الهلال.
– دراسات في التاريخ والآثار والحِرف الدمشقية، مطبوعات دار الهلال.
– من ذكريات الجلاء، مطبوعات دار الهلال.
– الصناعات اليدوية السورية التقليدية، مطبوعات مديرية معرض دمشق الدولي.
البحوث العلمية المنشورة في المجلات المختلفة:
– له أكثر من 150 بحثاً في مواضيع التاريخ والآثار والمتاحف والفن، علم النقود، الميثولوجيا، علم الجمال والثقافة وتاريخ الزجاج.
– له ثمانية بحوث عن تاريخ الزجاج وعلم المتاحف منشورة باللغة الفرنسية.
– قام بترجمة العديد من المقالات لمجلة الحوليات الأثرية.
– نُشرت له عدّة مقالات في كل من الحوليات الأثرية، مجلة المعرفة، بناة الأجيال والباحثون، ودراسات تاريخية عديدة.
الندوات العلمية والمؤتمرات الدولية والمعارض الفنية:
– شارك بأكثر من 15 مؤتمراً وندوة علمية داخل وخارج القطر.
– معرض لرسوماته الفنية، المركز الثقافي الفرنسي بدمشق.
– معرض لرسوماته الفنية، المركز الثقافي الإسباني بدمشق.
– الندوة الدولية «حلب وطريق الحرير»، حلب 1994.
– الندوة الدولية «تدمر وطريق الحرير»، تدمر 1996.
– الندوة الدولية «سورية الوسطى من البحر إلى البادية» بالتعاون مع المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا والصندوق الوطني البلجيكي للبحث العلمي، حماة.
الأوسمة والجوائز التي نالها:
– وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى – الجمهورية العربية السورية.
– وسام برتبة فارس «Chevalier» من الجمهورية الإيطالية.
– وسام برتبة ضابط «Officier» من الجمهورية الفرنسية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن