ثقافة وفن

شو بخاف

| إسماعيل مروة

كان الغناء بحثاً عن رغبة عارمة مكبوتة، وكانت الأصوات تتمايل سكرى للوصول إلى غايات تنتهي بانتهاء اللحظة، فمن منيرة المهدية إلى بديعة مصابني، إلى سلسلة تطول من غناء جرّحته النشوة الطارئة، إلى كلمة تدخل في تلافيف الجسد المضنى الباحث عن لحظة يريدها.. وصارت الكلمة حبيسة اللحظة، واللحن تحوّل إلى طوق يحيط بخصر الشهوة العارمة التي تبحث عن لحظة مسروقة (حفوت عليك بعد نص الليل لمّا تنامي)!
وتحولت خشية المحب من أن ينفّر الأحلام من عين من يحب إلى رغبة عارمة في أن يقع على المحسوس.. ويظهر النيزك الحقيقي في حياتنا الفنية، من أبي خليل القباني إلى سيد درويش، وصارت الشام أغنية ينادي القباني (يا مال الشام) وسيد درويش صار عصفوراً على «شط إسكندرية).. هذّب القباني الكلمة، وناجى الحمامة وهي تطير بين دمّر والهامة، تنقر بحب دم المحبوب الغافي هنا وهناك، فرأوا فيه مارقاً وخارجاً عن القانون، وحاكموه بسيف عثماني، فعاش غريباً، ولم يفعل سوى أن خرج بهم من الحانات الوضيعة إلى المسرح، ومن الشهوة إلى طيران الروح!
أما سيد درويش النغم الإنساني المشدود بالألم، فقد انتهى سريعاً، لكنه زرع حبه وأصالته، ولم يأبه لإدمان وصفوه به أو زرعوه فيه وحمل الراقيان المثقفان عاصي ومنصور الرحباني المهمة عنهما، ولا شك في أن الرحبانيين وضعا هذين العلمين في حسبانهما، لذلك أعاد الفيروز يا مال الشام وشط إسكندرية، وكما يقول المبدع زياد غنت فيروز كوكو كوكو لأنها نبض سيد درويش، وفوق ذلك حمل الرحابنة معهما شغفهما بالموسيقا العالمية وفهمهما، ولم يتخليا عن الأوف والميجانا والموامل والبزق والناي، وببراءة الضيعة والروزنة وخبز التنور، والعلاقات المفتوحة بالفطرة صاغا عالماً جديداً، لا يعنينا من كتب ومن لحن منهما، وليس مهماً أن استلهما من موتزارت وسيد درويش. الذي يعنينا أن الرحابنة خرجوا عاصي ومنصور وفيروز والياس وزياد من إطار الحلم المؤلم في حرمان الحب والتواصل ِإلى شفافية مطلقة، فلم يسألوا عن الكأس والنديم بتورية، بل تناولوا التفاصيل الموحية والمؤثرة.
يا حلو شو بخاف إني ضيعك، لك أن تضع تحتها ما تشاء من صور حالمة، وحين ألقى وردته لها استغربت (شو عرفوا أيّا تختي أنا وأيا تخت أختي)! ليستمر المشوار ببراءة الإنسان والروح التائقة إلى الحلم.
الرحابنة صنعوا عالماً مختلفاً، كان من الممكن أن يحلّق بالأغنية وأن يرتقي، وأن يؤثر ويتأثر ليخلق هوية، لكن الهوية كانت رحبانية فقط، وعادت الكلمة سيرتها، وعاد اللحن نغماً لحانات وخمارات، وبعد أن صرنا نردد براءة وطرافة (يتجوز هو وسكران) تحولنا إلى عالم آخر أهم ما أقوله فيه التصنع.
الرحابنة لم يصنعوا إلا معجزة واحدة، هي أنهم عاشوا وأبدعوا كما يتنفسون، فكانوا حقيقيين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن