ثقافة وفن

تانيزاكي كاتب اليابان الذي تُرجمت أعماله إلى مختلف لغات العالم … «نعومي» من الروايات المذهلة المثيرة للرعب

|جُمان بركات

بدأت سلسلة نعومي في آذار عام 1924 بالنشر كحلقات يومية في صحيفة أوساكا أساهي، وكان تانيزاكي قد كتب قبل بدء النشر: «بالنسبة لشخص بطيء في الكتابة مثلي، تحتاج كتابة كل حلقة لعمل يستغرق يوماً كاملاً، إن كتابة الرواية ونشرها في الصحف عمل مضنٍ، لكنني سواء أحببت ماكتبت أم لا، أكان الإلهام مساندي أم لم يكن إلا أنني مضطر للكتابة يومياً».

للكوارث آثار عظيمة الشأن في مسيرة البشر، ولها تحولات تتدخل في خيارات حياتهم، هذا ما تعرض له الكاتب الياباني جونتشيرو تانيزاكي إبان تعرض مدينة طوكيو ويوكوهاما لزلزال مدمر عام 1923، كارثة بيئية أجبرته على مغادرة مدينة يوكوهاما المشهورة بتحضرها، بعد أن ضمت بمجمل أحيائها سكاناً من أصول أجنبية ليهاجر تانيزاكي بعدها إلى أوساكا بأمل العودة بعد إعادة إعمار المدينتين، لكنه بعكس العديد من النازحين لم يرجع ليبقى مقيماً غرب اليابان زائراً لمدينة طوكيو بين فينة وأخرى. اشتهر جونتشيرو تانيزاكي بكتابة القصص والمسرحيات والسيناريوهات التي تتسم بالمغامرات المثيرة للرعب أحياناً، لكن بعد وقوع الزلزال بدأ بكتابة الروايات فكانت رواية «عشق الأبله» الأولى التي سحلته من المنحدر الذي كاد يهبط فيه لتصبح حلقة البداية لسلسلة من الروايات المذهلة التي ماانفك يكتبها حتى وفاته عام 1965.

المتاهة

رواية «نعومي» –ترجمة حنان علي- يدخل بطل الرواية نهائياً في متاهة البلاهة أو عدم اليقين، لا يقوى على نزع قدميه من الوحل وتخليص ذاكرته المتعفنة من روائح أدمنها طويلاً، يقول: لا أعرف كيف هربت من قاعة التدخين، كنت مصاباً بالدوار ولم أشعر بقدمي حتى صفعني المطر البارد خارجاً، ركضت تجاه حي جينزا ولا أدري لِمَ كنت أشعر أن أحداً يتبعني. كان دماغي معطلاً انحدرت عند المنعطف الأول بعد «أوراريشو» وسارت بي قدماي تجاه «شيمباسي» صفحات المياه على الرصيف عكست أضواء الشارع، بدت أقدام المارة تتحرك بفوضى فوقه، كما لحظت فتاة غيشا بثوبها الصوفي تقف تحت مظلتها جوار العربات والسيارات.

الطفلة «نعومي»

«نعومي» سهلة المنال إلا أن القلق غير موجود نتيجة سلوكها الغريب: «هي طفلة حيوية نشطة، لذلك رغم توجسي البسيط إلا أنني كنت أشعر بالطمأنينة كلما نعتوها بالصبي أو حين تلهو معهم ببراءة ومرح، ربما لديها دافع خفي ولن تتمكن من الاختباء بسلوكها عن أعين الجميع بالتأكيد إنها…. أوه لا ينبغي أن أقول هذا!».
«عشق الأبله» تعد أهم ثلاثة أعمال ذاع صيت تانيزاكي يابانياً من خلالها، وقد ترجمت إلى اللغات الأوروبية تحت مسمى «نعومي»، رواية جسدت الثقافة اليابانية في الفترة التي تمتد بين الحرب العالمية الأولى ووقوع الزلزال، وعلى الرغم أن تانيزاكي يعتبر محافظاً على التراث الياباني بما يخص الأمور الثقافية والجمالية، إلا أن ثقافة الانفتاح السائدة أوائل العشرينات أثرت به، فأضحى داعماً متحمساً لأهمية السينما، معارضاً ساخراً ممن يصف الرقص في المناسبات الاجتماعية بأنه سلوك مشين وبالتالي كرس تانيزاكي وقته كله خلال أعوام 1920 و1921 و1922 لكتابة السيناريوهات لاستديو يوكوهاما.

الرقص

«تلقت شقيقة زوجتي الصغرى، دروس الرقص على يد صديق غربي، وكانت ابنتي ذات السبعة أعوام أولى تلميذاتها، أما عني فكان الرقص لا ينفك يثير بي الرغبة لتعلمه، البداية كانت حين مكثت أسبوعاً في فندق كاجستين في كسورمي بمدينة يوكوهاما بغرض الكتابة، ذات ليلة وفي القاعة المجاورة لقاعة الطعام حيث كنت أتناول عشائي، لاحظت استمرار الرقص بجو مثير، بما أثار فضولي فكانت دعوة المضيفة هيراوكا لخوض التجربة، راحت السيدة بالفعل تشرح لي أساسيات الرقص، وسرعان ماتعلمتها إلا أن مغادرتي الفندق باكراً لم تتح لي تعلم الرقص ببراعة، كنت مقتنعاً أنه علي أن أواصل ما بدأته على يد أستاذ مختص، روسي الأصل يدعى فاسيلي كروبن، حصلت مع زوجتي على درسين أسبوعياً في الطابق الثاني لأحد المقاهي، رافقنا في الدروس امرأتان أجنبيتان متزوجتان وابنة طبيب.
كان تعلم الرقص بالنسبة للرجال أصعب منه للنساء، وكنت كرجل قد أمضيت أكثر من شهر ولم أزل في بداية تعليمي لرقصة فوكس تروت، في حين أن النساء الأخريات تعلمن رقصتين معها خلال زمن أقل.
أقبل الصيف، الجو خانق شديد الرطوبة بما يضعف أداء التمارين، هجرت تلقي الدروس لكن هذا لم يمنعني عن ارتياد كاجتسين للرقص هناك متحاشياً الرقص مع غرباء خاصة مع إدراكي أني أسوأهم، أما صديقي الروائي كومي ماساو فكان أجرأ مني، وكانت فكرته تناقض فكرتي بأن أفضل طريقة للتعلم هي الإقدام والتوقف عن الدروس والرقص مع شركاء مختلفين، كان العمر عاملاً مهماً في الإسراع بالتعلم حتى إن طفلتي كانت أفضل مني بكثير.
أيكون للرقص مساوئ؟ حاله حال أي أمر في الحياة، لكني أعتقد أن الرقص صحي للجسد، يجعل من الراقص شاباً مفعماً بالحيوية والطاقة بما يجعل من ممارسته سلوكاً أهم بكثير من الجلوس في المقاهي، لا يغير من واقع الرقص وأهميته ما يعتقده الآخرون عنه من سوء أو عدمه، الرقص ممارسة ينقاد إليها معظم الناس شباباً وكباراً ولا بد أن ينشر على نطاق أوسع وهذا ما أتمناه».

الجلوس في المقاهي

من الواضح أن تانيزاكي لا يطيق الجلوس بالمطاعم أو المقاهي وهذا يظهر جلياً في توصيف المكان الذي عملت به نعومي: «مصاب بنفور غريب في المقاهي، لا أخفي أن السبب كامن في ماهية هذه الأماكن التي عادة ما تُخصص في الظاهر لتناول الطعام والشراب، في حين في واقعها ترنو لتجذب الرجال للنساء لتمضية وقت أكثر معهن، أماكن ظليلة غامضة تثير اشمئزازي لا أدري إن تغير شيء مما كنت أراه في هذه المقاهي، لكني أعتقد بالمجمل أنها بؤرة للسعي خلف النساء، أكثر من مشاركتهن الطعام والشراب، ولا يعجبني هذا الأسلوب الوضيع الرخيص».

الفتاة العصرية

انتشرت في أوائل العشرينات ظاهرة الفتاة العصرية، امرأة تحدت التقاليد اليابانية فقصت شعرها، ارتدت الثياب الغريبة وانتعلت الكعوب العالية، امرأة بدأت بارتياد دور السينما وصالات الرقص والنوادي الرياضية، كانت الفتاة اليابانية في تلك المرحلة تسعى نحو التحرر والاستمتاع بملذات الحياة، فأتت شخصية نعومي لتجسد ذاك الطراز الأول للفتاة العصرية، أما عن هذا النمط الذي أغرى المرأة اليابانية باتباعه، والشكل الغربي الذي أضفاه لسلوك حياتها، فقد عبر عنه تانيزاكي في مقال بعنوان: «الحب والرغبة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن