من دفتر الوطن

معرة النعمان.. وشقائق الرجال

| فرنسا- فراس عزيز ديب

عندما يذكر اسم الراحل محمد مهدي الجواهري، سيتبادر إلى أذهاننا صورة الشاعر الذي عبرت من تحت بلاغته السنون ليبقى عنوان الوفاء للبلد الذي أحبه، فجعلنا نطرب لنبرات صوته وبلاغته، تحديداً تلك الكلمات التي قالها في دمشق عبر قصيدة «شممت تربك» والتي قد نحتاج لزمن طويل حتى يأتي جواهري جديد يستقي من الفصاحة والبلاغة ذاتها.
قد تبدو هذه القصيدة من أجمل ما قاله الجواهري، لكن وللأمانة أذكر أنه قبل سنوات وقعت عيناي على قصيدة قديمة قالها الجواهري يوماً في حفل ألفية أبي العلاء المعري كان مطلعها:
قف بالمعرّة وامسح خدها التّربا واستوح من طوّق الدنيا بما وهبا.
قد تكون القصيدة معروفة لدى البعض، لكنها بالنسبة لي كانت مفاجأة، يومها كانت المعرة لا تزال في عهدة شذاذ الآفاق، أما أهلها الحقيقيون فإما مهجّرون عند إخوتهم في باقي المدن السورية، أو رهائن عند عصابات الإجرام سليلي دولة القتل العثمانية، ولثقتي الكاملة بأن كل شبر من الوطن سيعود، احتفظت بالقصيدة ليوم سيكون من المفيد استذكارها أو الاقتباس منها، وهل من يوم أجمل من ذاك الذي دخل فيه شجعان هذا العصر معرة النعمان محررين ومنقذين؟
أن أكتب صباح انتصار حققه شجعان هذا العصر في معرة التاريخ فهذا يعني أني محظوظ، لأني سأصف أحد أهم الانتصارات في معركتنا ضد القادمين من خارج التاريخ، لكن هذا قد يعني بالوقت ذاته أني سأضطر لأن أتجاهل شقائق النعمان، فأين هي من شقائق السلاح والتضحية؟ عليّ أن أنسى إعجابي بحجارة المعرة التي طوّعها أهلها الطيبون نحتاً وزخرفةً لتخرج زينةً للناظرين، كيف لا وشجعان هذا العصر نحتوا وزخرفوا لنا بتضحياتهم أعمدة البقاء لوطن تعمد بدمائهم؟
حتى أبو العلاء المعري سأضطر لأن أنساه، بل وأنسى بأني قد وكّلت نفسي يوماً ما محامياً عنه لآخذ حقه الضائع منذ قرون، وأثبت بأن المدعى عليه «دانتي اليجيري» سرق فكرة «الكوميديا الإلهية» من « رسالة الغفران» التي خطها رهين المحبسين بحروف من الندم، فلا ندم يعنيني إلا الندم على يوم يمر لم أستلّ فيه قلمي لأكتب ما أكتب عن شجعان هذا العصر، ولا تعنيني رسائل الغفران مادام الانتماء لهذا الوطن ولهذا الشعب هو الجنة التي لن نخرج منها من أجل تفاحة، بل عندما لا نعي بأن سورية أكبر من مجرد وطن. لا يعنيني جحيم الكوميديا، ولا كوميديا الجحيم ما دمت أثق بأن انتمائي لعقيدة الإخلاص التي خطها شجعان هذا العصر، هي أشبه بسفينة نوح التي لا تزال تبحر وسط طوفان التفرقة والتشتت.
ربما قد تبدو معرة النعمان عند البعض مجرد مدينة أو منطقة، سموها إدارياً كما شئتم، لكنها في الواقع أبعد من متحف طبيعي يقول للقاصي والداني: أينما تطأ قدماك في هذه البلاد فستسمع أحاديث للحضارة والتاريخ. هي أكثر من مجرد منطقة قد تشكل عقدة وصل بين جهات البلاد الأربع أعاد للسوريين شريان حياة سيعود لينبض بما نحب، هي كما كل منطقة سورية كانت ابنة شقائق النعمان، لكنها كما كل المناطق السورية التي تم تحريرها باتت «شقائق الرجال»، وهل من رجولة أعظم من الموت دفاعاً عن الشقائق!
في الخلاصة: لكم ندمكم، لكم جحيمكم وغفرانكم، ولنا وطن أزهر تعمد بدماء من نحب، وهل هناك أجمل من الأوطان التي تتعمد بدماء الأتقياء؟ تلك الدماء يصح فيها قول الجواهري في القصيدة ذاتها:
واستوح من طبّب الدنيا بحكمته ومن على جرحها من روحه سكبا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن