ثقافة وفن

إيلي شويري والاحتجاب!

| إسماعيل مروة

صدّاحاً كان صوته، غنى بصوته الجبلي أجمل الأغنيات، كانت أغنياته منتمية ومختلفة عن كل الغناء الذي نسمعه من هذا وذاك، عاش المدرسة الرحبانية مشاركاً في أعمالهم، وفي خمارة جورية كان متألقاً، ولكنه اختطّ لنفسه خطاً آخر، خطٌ يختلف عن الرحابنة ويلتقي معهم، وقد منحه الله مواهب عدة من قامته المميزة وحضوره اللافت، إلى جرثومة الكتابة التي شهدت بعبقرية كلمته المميزة التي تلتقي وتفترق مع الرحابنة ومع وديع الصافي ومع صباح، ومع كل الغناء اللبناني آنذاك.. إيلي شويري المبدع الذي لن يجود الفن والإبداع بمثيله إخلاصاً وثباتاً ووضوحاً، وهل يمكن أن ينسى الناس رائعته (صبي ولا بنت) التي صاغها بروحه من تجربته الخاصة، ولحنها بدم قلبه وشوقه لتكون معزوفة أب يتوق إلى من يحمل اسمه دون مواربة، ودون أن يخفي نوازعه؟!
إيلي شويري مبدع عربي ينتمي إلى لغته غناء وهوية، وينتمي إلى الوطن انتماء متميزاً، وها هو يصوغ الأغنيات التي تحولت إلى أناشيد دائمة وغير موسمية، ووحده بين الفنانين الغنائيين الذي أشبه إبراهيم طوقان في الروح والسيرورة، فكما تحوّل نشيد طوقان (موطني) إلى معزوفة عذبة يرددها جميع الناس حباً بأوطانهم وبلدانهم كذلك تحولت أغنيات إيلي شويري إلى أناشيد، وكثيرون ممن يرددون هذه الأناشيد لا يعلمون أنها من إبداع شويري شعراً ولحناً!
وهل ننسى (صف العسكر) التي تتغنى بالأرض والجندية والمقاومة والتشبث بالأرض والكرامة؟ وليس من باب المصادفة أن يتغنى الكبير دريد لحام بنشيده الجميل (بكتب اسمك يا بلادي) والذي تحوّل إلى لازمة في كل لقاء مع لحام ومع غيره من الفنانين، وهو نشيد يستدر الدمع والحب للوطن والأرض، ويقدّم حالة وجدانية مميزة، ولعلّ شويري من أكثر البارعين في المزج اللحني والإفادة من التراث جملة كلامية ولحنية، ومن منا يمكن أن ينسى لقاء ماجدة الرومي في دار الأوبرا بعد قطيعة مع دمشق وسورية، عندما جاءت لتشدو برائعتها (يسعد مساكم يا أهل الشام) والتي جمعت الكلام الجديد المعاصر مع الكلام التراثي الفولكلوري، وجمعت الجملة اللحنية التي تعبر عن الحاضر، والجملة اللحنية التراثية الأصيلة لأبي خليل القباني ولغيره من الموسيقيين.. وهذه المعزوفة السورية الشامية كلمة ولحناً هي للكبير إيلي شويري الذي لم يشأ أن يكون اللقاء بسورية حفلاً عادياً، بل أراد أن يقدم لها معزوفة مميزة، وبطاقة حب خاصة تتحرك في حارات دمشق وفي المدن السورية من (يا مال الشام) إلى (القراصية) وغيرها من الألحان الخالدة الباقية.
إيلي شويري يغيب اليوم عن المشهد الفني والاجتماعي، هو في مكان ما على الرغم من اختماره وخبرته، فقد وصل إلى مرحلة متقدمة في السن، وإلى مرحلة مؤلمة من النكران لإبداعه، وسورية التي اعتنت بعاصي الرحباني، وكرمت الرحابنة ووديع الصافي وغيرهم أجدر بأن يكون هذا المبدع الذي أحب سورية، في حين تنكر لها الآخرون، حتى من أبنائها، هي الأجدر بأن تلمس روحه وشعره وموسيقاه، وهي الأجدر بوردة شكر لرحلة خاصة لم تخضع للتقلبات، فالمحب شويري لم يكن مزاجياً في حب سورية، ولم يخضع حبه لأي ابتزاز سياسي أو نفعي.. وإيلي شويري هو من النادرين في هذا الزمان للتكريم والاعتناء، كلمته ولحنه وتراثه، بتاريخه وشواهده الباقية.. إيلي شويري في احتجاجه رسالة مؤلمة لكل المنتمين الذين يرون غياب القيم وتلاشي القمم وراء الحضور المتمايلة والوجوه المستنسخة.. لك الحب في ظهورك واحتجابك أيها المبدع الأصيل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن