ثقافة وفن

منير كيال مؤرخ دمشق الطيب العميق وداعاً .. ويرحل آخر حافظي التراث الدمشقي مشافهة بعد أن وثّقه بحبه

| إسماعيل مروة

ويرحل الأستاذ المؤرخ والصديق منير كيال قبل أيام، تاركاً إرثاً أدبياً وتراثياً قل نظيره، فقد أخلص كيال عمره لدمشق وتاريخها وحياتها وعاداتها وتقاليدها، وقد وسمه كثيرون بالمؤرخ الشعبي، فراق عمله لمن راق، ولم يرق لكثيرين ممن يّدعون العلم والمعرفة، ولكنه على الرغم من كل شيء كان الوحيد الذي أعطى التراث الشعبي الدمشقي حياته، وقضى كل عمره باحثاً عن حكاية، موثقاً لقصة، ناشراً لزغرودة دون أن يكل أو يمل، فما تعب من حاقد ولا من محارب، وغاية ما يقوله عنه: «مسكين ما بيعرف».

حكايته مع دمشق
قبل حوالي ثلاثين عاماً قرأت كتاباً عن الحمامات الدمشقية لمنير كيال، ومن ثم قرأت كتاباً آخر عن دمشق أيام زمان صدر عن دار البشائر بدمشق، فوجدت متعة في كلا الكتابين، خاصة أنني عشت بعض القضايا التي تناولها المؤلف في كتابيه، وأسعدني أن يتم توثيق هذا التراث، وهو في ذلك الوقت يميل إلى الاندثار والغياب، وفي كلا الكتابين حددت منهج كيال الجميل والعلمي:
– الاستعانة بالكتب والإصدارات عن دمشق وتراثها الشعبي.
– تفريغ الذاكرة من الحكايات الشفهية التي سمعها بنفسه.
تناولت الكتابين في دراستين منفصلتين مع إشادتي وملاحظاتي، خاصة ما يتعلق بتدوين التعابير الشعبية العامية، ووجدت بعد أيام، وهي عادة نادرة للأستاذ كيال يطلبني ليقدم بعض مؤلفاته، ويشكر، ويشرح ملاحظاتي على كتابيه، ومنذ ذلك الوقت بدأت حكايتي مع هذا الكاتب الرقيق ومع الدمشقي المؤمن بشامه، وفي جلساتنا المستمرة عرفت أن أغلب ما يقدمه كيال من الذاكرة والمعاشرة، فقد كانت أمه تصحبه في كثير من الزيارات والجولات النسائية، والحديث عن المهن والسيارين يحفظها من الرؤية والحكاية، وهنا ارتفعت مكانة كيال عندي، فكتبه تنتمي إلى المشافهة التي إن لم يعمل عليها فستضيع مع الزمن.
وفي جلسة حدثني عن البداية الفنية في سورية، وأنه قد كان مع الكبير دريد لحام وعمر حجو في فرقة واحدة، وأنه بقي زمناً، لذلك يحمل للفن والمونولوج مكانة خاصة في نفسه، وعملت على حثه لتدوين ذكرياته الفنية مع الفرقة المسرحية في كتاب أو في بحوث ووعد بعد اكتمال مشروعه بتوثيق التراث الدمشقي الشعبي، لكن المشروع لم يكتمل، وبقيت ذكرياته الفنية طي روحه.

منير كيال والدراما السورية الشامية
بعد توالي ظهور الأعمال الشامية كان لمنير كيال رأي، وحدثني به، وهو ممن يرون أن مسلسل أيام شامية هو الأفضل والأقرب إلى الصدقية لاعتماده على العادات والتقاليد أكثر من اعتماده على العنتريات الفارغة والفشخرة، فسألته: لِمَ لا تقدم رأيك للعاملين في هذا الباب؟ فقال: أنا التقيت الأستاذ بسام الملا وتحاورنا حول الأعمال، وأعطيت ملاحظاتي، وملاحظاتي تقتصر على التراث والإكسسوارات، فالقماش والدامسكو والألوان والأواني كلها قضايا يجب أن يتم استخدامها بدقة وحرفية عالية، فلا يجوز أن تستخدم في مسلسلات شامية قديمة أواني لم تكن موجودة، والأقمشة لها تخصصات وليست مجموعة ستائر يتم توزيعها هنا وهناك دون إدراك دورها وأهميتها، وكذلك حدثني عن الأعراس وحفلات النسوان والخصوصية فيها، وكلها أحاديث قد توفر الكثير من المال في الإنتاج الدرامي، ولكن العاملين في الدراما لم يعملوا إلا ما يرونه مناسباً، الله ييسر لهم، غداً يفلسون لعدم المعرفة بالتراث كذلك قال لي في ذلك اللقاء.. وهو استمر في التوثيق المطبوع ليخرج أهم موسوعة تراثية شامية.

منير كيال الطيب قريب الدمعة
على الرغم من مرضه وتعبه منذ زمن بعيد، إلا أن كيالاً كان حريصاً على حمل مقالاته بنفسه، وعلى أن يحدد موعداً لا لشيء إلا ليسلم على أصحابه، وما إن تبدأ الحديث حتى يبدأ دمعه بالانهمار وكأنه مربوط إلى بردى، وعرفت فيما بعد أن البكاء عند منير كيال هو وسيلة الدعاء والتنفيس والحرب، لا يلجأ إلى شتم أو انتقاص أو محاربة لأحد.
بل يلجأ إلى دمعه ليغسل حزنه وحسب، ولا أنسى عندما حدثني مرة شاكياً من أن أحدهم اعترض على كتبه في وزارة الثقافة وأوقف طبعها، لأنها حسب رأيه أدب شعبي، وثم تجاوز الأمر، وطبعت الكتب، فكان شكر منير كيال بالدمع أيضاً، لكنه دمع الحب والعرفان، إذ كان يمسك أوراقه وكتبه بيديه بكل حب وحرص لأنها بنات أفكاره، ولأنها تمثل الشام عنده، ولا يوجد لديه أهم من الشام.

محبوبته الشام
في كل ما كتبه منير كيال كان محلياً وموثقاً ولم يدع التأليف في يوم من الأيام، فهو جامع وموثق من الدرجة الممتازة ولم يترك شيئاً بحكم الجمع لم يعمل عليه، ابتداء بالأسواق والأنهار والحارات والمياه، وصولاً إلى الأفراح والبيوت لـ«الوطن» والأزياء والحمامات والنسوان والكنايات الشعبية والحماية والكنة، وصولاً إلى أعلى الرموز كالمساجد والمقامات والكنائس والطرق الصوفية، وكأننا أمام عاشق ينحني أمام كل تفصيلة من تفاصيل محبوبته ليقوم بجمعها في عقد يليق بعنقها وتاريخها، ويستحق كيال كل الاحترام من دمشق التي أحبها ورسخها في كتب للتاريخ قبل أن تضيع الذاكرة والأشياء الجميلة من ذاكرة الناس.
كيال والوطن

مع بداية مشوار جريدة «الوطن»، اتفق الأستاذ كيال وهو الصديق على نشر مقالات عن الشام، وبعد موافقة السيد رئيس التحرير استمر كيال بالكتابة من دون توقف لـ«الوطن» وحدها، وكان يفخر بذلك، وبأن «الوطن» لم تهمل كتاباته، وقد صدر كتاب عن وزارة الثقافة يضم أبحاثه في جريدة «الوطن» التي احترمت الكاتب الكبير وذاكرته، وكانت على موعد مع دراساته وأبحاثه، وبقي يقصد «الوطن» بقامته وعكازه إلى وقت قريب، ومن ثم أوكل لإحدى قريباته أن تتابع مقالاته وما يلزم، وخط منير كيال وأوراقه دليل صدق على أنه كان يكتب خصيصاً لجريدة أحبها وأشار إليها في كتبه، ولقارئ يثق باسمه.
رحل منير كيال الكاتب والموثق والصديق وقد أغنى المكتبة العربية والدمشقية بعشرات الكتب والأبحاث التي تستحق أن تكون مدار بحث ودراسة.
في الذاكرة التي حفرتها تبقى
وفي صدارة روح الشام تعيش
فمن خلد إلى خلد.

من مؤلفاته
1- فنون وصناعات دمشقية دراسة 1958.
2- الحمامات الدمشقية- دراسة- 1964. طبعه ثانية عام 1988.
3- جغرافية الوطن العربي- دراسة- 1965.
4- رمضان وتقاليده الدمشقية- دراسة- 1973. طبعة ثانية عام 1991 بعنوان رمضان في الشام أيام زمان.
5- بترول العرب وقومية المعركة- دراسة 1973.
6- يا شام: في التراث الشعبي- دراسة 1984.
7- حكايات دمشقية- دراسة- 1987.
8- درر الكلام في أمثال أهل الشام، دراسة 1992.
9- بابات مسرح الطفل، كركوز وعيواظ في نصوص موثقة 1995.
10- الصناعات السورية التقليدية – دراسة 1978.
11- المرأة في المثل الشعبي الشامي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن