قضايا وآراء

سورية.. أبعاد مختلفة

| مازن بلال

تختلف الرؤية لمعارك إدلب عن معظم التفاصيل العسكرية، فالمسألة لا تتعلق فقط باحتمالات المواجهة التركية السورية، ولا حتى بتهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث يمثل الدخول إلى محافظة إدلب وإعادة ربط مدينة حلب بباقي المحافظات السورية صورة لعوامل سياسية اقتصادية تحتاج للقراءة من جديد، فالتصعيد الذي طفا على مساحة الحدث شكل بوابة للنظر لعلاقات سورية بشكل مختلف، وخصوصاً أن محافظة إدلب شكلت عنواناً قبل سنوات لتحالفات إقليمية أدت لاجتياح المسلحين للمنطقة.
في التصعيد الحالي مشهد غير مسبوق بالنسبة للسوريين، فهم لا يقفون فقط أمام صورة عسكرية توضح هشاشة الاتفاقات الخاصة بمناطق التوتر فقط، بل أيضاً أمام ثلاثة استحقاقات أساسية؛ أولها ما رافق المعارك في إدلب من اجتماعات بخصوص السوريين الأكراد، فهذه اللقاءات تطرح ولأول مرة تغيراً في البنية السياسية بالنسبة للتمثيل في التفاوض أو في اللجنة الدستورية، وهذه «التفاهمات» تبدو كنتيجة لحسابات روسية كانت تسعى لتوازن واضح مع تركيا، فموسكو التي تركت الشمال الشرقي لسورية لتداعيات مختلفة تعود اليوم لدور الوسيط، وللبحث عن علاقة مختلفة بين السوريين الأكراد والحكومة في دمشق.
يرتبط التفاوض الجاري مع الفصائل الكردية بمعارك إدلب من جانب سياسي، وهذا هو الاستحقاق الثاني الذي سيتعامل معه السوريون، فلأول مرة هناك كتلة سياسية حقيقية داخل عمليات التفاوض وليس مجرد جهاز سياسي يعمل في الخارج، ومن جانب آخر فإن هذا الطرف السياسي سيؤثر في التوازن العام في مسألة اللجنة الدستورية، ويضع مساحة نقاش مختلفة لا ترتبط فقط بهرمية السلطة التي بقيت هاجس «الائتلاف السوري»، بل بالتوازن في علاقات سورية الداخلية من خلال قوانين مختلفة ربما أهمها القانون 107 الخاص باللامركزية الإدارية.
يبقى الاستحقاق الثالث القائم على طبيعة التوازن الاقتصادي الذي سيشكل قاعدة لأي قدرة سورية على التوازن، ورغم أن هذا الأمر لا يبدو متشابكا مع ما يجري في إدلب أو في الشمال الشرقي لسورية، لكنه عقدة الالتقاء التي يمكنها الحد من التوغل الأجنبي عموماً في سورية، فالصراع مع تركيا في النهاية هو تنافس «جيو اقتصادي» إن صح التعبير، والتوازن السياسي الداخلي السوري لن يكون سوى انعكاس لعلاقات اقتصادية منتجة وقادرة على التعامل مع الظروف الضاغطة سواء من الشمال أو من الجنوب عبر إسرائيل.
الموضوع الاقتصادي هو الأكثر تعقيداً لأنه ينطوي على تصورات جديدة بالنسبة للجزيرة السورية التي كانت خزان الغذاء السوري، فالخريطة الاقتصادية الجديدة في شكلها العام، حالة مواجهة مع كل ما خلفته الحرب، ولكن تفاصيلها ستبدو مختلفة كثيراً لأنها ليست عناوين فقط، بل محاولة لمعرفة طرق الإنتاج القادرة على العودة بالمجتمع السوري إلى حالة مختلفة، وفي المرحلة التي يظهر الإنتاج في تفاصيل الحياة السورية سيبدأ التوازن في المصالح داخل كامل الجغرافية السورية، وستنحسر آثار الحرب لأن مناطق التصعيد ستنحاز بشكل تدريجي إلى الدورة الاقتصادية.
الاستحقاقات السورية القادمة صعبة ولأبعد الحدود لأنها قائمة على إعادة بناء العلاقات الداخلية، وليس على رسم مواقف سياسية لا تستند إلى أي قواعد اجتماعية واضحة، فالرهان السوري سيكون على قدرة الانتقال من التعويل على «الشرعية الدولية»، وهو ما قامت به بعض الأطراف المعارضة، إلى التركيز على «شرعية الإنتاج» السياسي والاقتصادي، وهذا الانتقال لن يكون سهلاً لأنه سيرتبط بالقدرة على آليات تتجاوز ما كان مألوفاً في سنوات الأزمة وربما قبلها، وسيستند لعوامل قوة بقيت معطلة طوال الحرب وتحتاج للظهور اليوم عبر «المعرفة الاجتماعية» بدلاً من التغني فقط بالتنوع الثقافي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن