ثقافة وفن

الإبداع والديمومة!

| إسماعيل مروة

يستشري وهم الإبداع في أنانية المبدعين! فيدّعي أحدهم أنه يقدم رسالة، والآخر يقدم تنويراً، والثالث يبشر بما يجهل الناس الآخرون، وهكذا يستمر الوهم، وفي كل مرحلة من المراحل نستطيع أن نكون مطمئنين من دون مواربة بأن المبدع ينطلق من أنانيته لذاته وروحه قبل أي منطلق آخر، ولهذا الوهم جناح آخر لا يقل خطورة هو جناح المجتمع والسلطات التي تنظر إلى المبدع نظرة دونية، لأن جمع مجمل ما جاء به المبدعون معاً يمكن أن يشكل سبلاً من الرؤى، ويتحول إلى تنوير حقيقي، وما على الهيئات المعنية والسلطات إلا العمل الجاد والدؤوب على جمع ما تفرق من الذوات الإبداعية لتشكيل حزمة ضوء وتنوير لم تكن لولا هؤلاء، ولكن هذا الجانب، وهذا الجناح أدرك دور المبدعين وخطورتهم في كل جانب إبداعي، فهم القادرون على تغيير الذائقة، وهم الذين بإمكانهم فعل الأفاعيل تجاه التراث والحياة والمستقبل من خلال بلورة رؤاهم، وربما استشعر المعنيون منذ القدم أن هذه الرؤى المتقدمة قد تسهم إسهاماً كبيراً في تغيير الخرائط الفكرية والسياسية، وربما تنزع إلى مستقبل مختلف لا وجود فيه للمتقاعسين، وربما أدى هذا إلى انزياح في الفكر والسياسة والرؤى، فعملوا على تشويه الإبداع، واختراع طبقة من المثقفين مضادة لطبقة المبدعين، وضمن إطار المصالح والرؤى تم الصراع الذي تدعمه السياسة، فغاب المبدعون الحقيقيون الذين لا يسبحون في المياه نفسها مرتين، ونشأت طبقة مثقفي السلطات المداهنة التي تميل إلى النفعية والمصلحية والحفاظ على مصالحها المرتبطة بمصالح الطبقات السياسية، سواء أكان ذلك علمانياً أم دينياً، ومثقف السلطة هو الذي يلوي عنق النص والفكر واللغة، ليناسب السادة الذين أرادوه، ويكرّس نمطية تقليدية من الثقافة والقراءة والتفسير ليحافظ على جهالة مميزة في عمقها وخطرها، وتسهم هذه الجهالة في تحقيق مصالح نخبة سياسية، لكنها تنخر في وطن يحتاج إلى فهم تنويري للنص الشرعي، وتحتاج إلى قافية شاردة عصية على المطاردة.. لذا وعبر قرن من الزمن لم نصل إلى نتيجة في فهم آليات النص الديني والفتاوى التي تستدعي الألم، ولم نصل إلى نتيجة في الشعر الحديث والقديم، ولم يجرؤ الناقد على القول: إن المتنبي كان عظيماً في وقته، ولكن لو جاء المتنبي بعبقريته اليوم فلن يكون مستساغاً، ولن يجد بين الناس من يشتري شعره أو يقرأ فيه!! حتى من تحمّس للشعر الحديث وشكله ومضمونه ارتد من جديد عن آرائه ليماشي طبقة المثقفين ويحقق مصالحه!
ومن ذهب إلى أساليب التفكير العلمي التي يحتاجها المجتمع عاد بعد أرذل العمر لينتمي إلى شريعة وطائفة ومذهب، وأعلن توبة نصوحاً!!
كلما جلست إلى المبدع الرائع بندر عبد الحميد تعود إليّ هذه الهواجس، فهو من المبدعين المحلقين شعراً ونقداً، وشعره كان محط دراسة وإعجاب، ويعدّ من الرواد في الحركة الشعرية الحديثة في سورية والعالم العربي، وكنا نسمع باسمه ونتمنى أن نحظى بجلسة منه مع شعره، ولكنني بعد لقاءاتي به صرت أكثر حرصاً على هذا الإنسان الجميل، الذي إذا سألته عن شعره ابتسم، وإذا تحدثت عن ريادته سخر، وإذا سألته عن مجموعة شعرية حار ولم يجدها.. لأكتشف أن بندر عبد الحميد من المبدعين الذين عرفوا الإبداع ودوره في دورة الحياة، ولم يركن إلى أنه مبدع ومحلّق، وإنما وجد أن الإبداع هو وسيلة حياة وليس وسيلة وصول، وأن الادعاء بالمكانة وهم لا يعيشه ولا يتنفسه، وإنما غايته أن تحدثه باسمه وحده، وابتسامته تتسع عندما يشعر أنك تعامله إنساناً يحبك وتحبه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن