ثقافة وفن

«إيشيكاوا تاكو بوكو» يفتح معرفتنا أمام اليابان وشعرها … لا نعرف الكثير عن شعره.. والترجمةُ تقدم المضمون لا الشكل الشعري المحتذى

| أحمد محمد السّح

تعتبر الترجمة واحداً من أهم أسس نقل الثقافة في العالم، لا بل إنها السبيل الأهم في التنوير، وما من شك في أن تنوع الترجمات في أي لغة يسهم في ثراء هذه اللغة، وفتح أبواب فكرية ومعرفية جديدة تجاه المثل والقيم الإنسانية التي تعيشها شعوب أخرى نتعرف إليها من خلال نتاجها الفكري والثقافي. ولا تزال الملاحظات كثيرة حول الترجمة في العالم العربي، فهي تخضع لسياسة القوة الناعمة التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية. فثقافة شعوب الشرق باتت هوليودية ومقتنياته من كتب الشرق الأقصى قليلة، وتعتمد على الإرث أكثر من الإبداع. فكلنا يعرف ديستوفيسكي بترجمة سامي الدروبي ولكن لا أحد يعرف وضع الرواية الحديثة في روسيا، وشبيه ذلك الأمر بالنسبة إلى لغات الشرق الأقصى لا بل إن الوضع أسوأ فنحن قليلة معرفتنا بأسماء الكتاب والأدباء اليابانيين رغم كل ما تؤكده الدراسات والمعلومات عن أن اليابان بلدٌ يقدس مبدعيه، لا بل إن الشعب الياباني الموسوم بسمة التكنولوجية المفرطة في حياته لا يزال إلى اليوم يحترم مصطلح الشعر، ويحترم الشعراء كمكانة اجتماعية وفكرية، كما تساهم الدولة في رعاية الأدب وتسخير كل مستلزمات الإبداع لكل مشتغلٍ فيه.

«إيشيكاوا تاكو بوكو» ماذا ضيّعنا منه؟
في اليابان تجد الأساطير مكانتها المرموقة ويبدو أن تضييع الإرث الفكري للمبدعين هو سمةٌ عامة للشرق، وهذا ما نواجهه مباشرةً حين نتعرف إلى التراث الفكري للشاعر الياباني المقدس في بلادهم، إيشيكاوا تاكو بوكو، الشاعر الذي لم يعرف سن الثلاثين، ونحن أيضاً كما أبناء جلدته من اليابانيين لم نعرف بالضبط كم عاش من السنين.
تحول هذا الشاعر إلى ضميرٍ جمعي للأمة اليابانية وتحولت قصائده إلى حكمةٍ في الحياة اليومية، يعيشها اليابانيون ويستلهمونها في استمرارية نهضتهم، رغم أن هذا الشاعر لم يعرف إلا البؤس في حياته ولم يعرف إلا التنقل من مكانٍ إلى آخر، لكن الواضح أنه عرف الكثير من الكتابة والكثير من الشعر.
قد يكون السبب في الضياع مرجعه إلى شخصية هاجيميه إيشيكاوا وهو الاسم الحقيقي لإيشيكاوا تاكو بوكو الذي ترك وراءه إرثاً من القصص والحكايات الشعبية تتزاحم مع قصائده، حول أناسٍ كان جارهم أو اشترى بقالته من عندهم أو استأجر في عمارتهم وكل ذلك صورٌ من التحبب والتقرب لشاعرٍ أهملته بلاده في حينها استجابةً منها لإهماله لنفسه.
فهمنا لليابان كنمط ثقافة وأمة مرتبطٌ بفهم أدبها.
بلاد اليابان ملتبسةٌ علينا نحن في هذه المنطقة فلا نكاد نفهم طبيعة بنيتها الاجتماعية، والملتبس فيها أكثر هو الشعر، فالصورة النمطية لليابان أنها بلاد التكنولوجيا التي لا تتوقف، وفي بلادنا العربية التكنولوجيا تعني ضد الشعر وضد الفن وضد الإبداع، والسبب في ذلك قصورٌ فكري هو جذر كل مشكلاتنا، وللإيضاح فقط لا للاستفاضة فإن معظم العلماء العرب كانوا شعراء، هل نتحدث عن الكيميائي ابن حيان أو البصري ابن الهيثم؟ لا يعرف الكثيرون أنهم كانوا علماء وشعراء في آن معاً. وهذا تبريرٌ يطول في بلادٍ لا تعرف شيئاً إلا قشور الحضارة، في تمايزٍ واضح لبلادٍ دخلت الألفية الثالثة وهي تحتفظ بإرث بدأ سنة تسعمئة للميلاد يقتضي احترام الشعر والشعراء ولا تزال بلاد اليابان تعيشه إلى اليوم، ولكن هذا الاحترام لم يحرم إرث تاكو بوكو من الضياع إن لم يكن في سيرته الفكرية ولكن في بعض أشعاره.
شكل الشعر في اليابان
في مرحلة تاكو بوكو

في اليابان نوعٌ من الشعر اسمه التانكا، وهو مبنيٌ على الوزن والتقطيع في أصوات الحروف والكلمات وليس عبثاً اعتباطياً كما درج اليوم في الشعر المستقى من الشعر الياباني، والتانكا يقوم على الغنائية وترجمتها الحرفية الأنشودة القصيرة وهي تطور لما كان يعرف بالواكا أي الأغنية اليابانية، أي إنها اختصارٌ لها، والتانكا تتكون من واحدٍ وثلاثين مقطعاً صوتياً لها شكلٌ ثابت وتنتظم في خمس وحدات إيقاعية أي خمسة أسطر، في كل سطر بالترتيب عدد من المقاطع الصوتية وهي بالعدد ترتيباً (خمسة- سبعة- خمسة- سبعة- سبعة) وقد كان تاكو بوكو من أشهر الشعراء في استخدام هذا النموذج أي هذه الغنائيات القصيرة.
بقي من شعر تاكوبو مجموعتان شعريتان وعدد كبير من القصائد وهي كل ما كتبه في حياته القصيرة ولكن كم المقطوعات الغنائية الواردة مع هذا الكم من الظروف البائسة يخلق الكثير من التساؤلات حول شخصية تاكو بوكو أو حتى عن إمكانية أن تكون قصائد قد نسبت إليه وهي ليست له.
(ولكم أتذكر الآنَ
تلك التي بكت في غرفتي
هل أنت من أحداث في رواية؟)
في هذه القطعة وغيرها الكثير نقرأ ثلاثة أسطر بالعربية وفي بعضها أربعة، لأن مفهوم المقطع الصوتي في اليابان مختلف عنه في العروض والوزن العربي، لذلك فهم يكتبون خمسة أسطر أو خمس وحدات صوتية، إن فهمنا للشعر الياباني لن ينفصل عن فهمنا للغة اليابانية ولذلك فإن أي خلطٍ نقع فيه يكون لأسباب التعريب والترجمة وهو كل ما لم يفهمه المصفقون للهايكو اليابانية التي حين عرف اليابانيون أننا ننقلها إلى لغتنا أصابتهم الضحكة والدهشة لانعدام الفهم المتكامل لهذه النماذج التي تكتب باسم الهايكو.
(لا أدري لم خطر في البال أن هناك من يفكر بطريقتي نفسها
وأكثر مما توقعت بكثير) «كمشةٌ من الرمال» و«يصعب أن ننساهم» عنوانا المجموعتين الشعريتين لهذا الشاعر، وحين نقرؤهما ونطلع على ترجمتهما للشاعر السوري محمد عضيمة وزميلته اليابانية كوتا كاريا، نطلع على فكرٍ تأسيسي في الشعر الياباني نطلع على عقل وثقافةٍ مختلفة لا يمكن البناء عليها في الكتابة من حيث الشكل، وإنما يمكن استلهام الصور لفهم كيفية بناء المضمون الفكري لشعب بالعموم وشاعرٍ تأسيسي بالخصوص، لكننا أحوج إلى الترجمة للحديث علنا نعرف ماذا تنتج شعوب الأرض في أيامنا هذه؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن