قضايا وآراء

الأسطوانة المشروخة في الصحافة التركية

| د. بسام أبو عبد الله

إن استعراض ما يكتب في الصحافة التركية يبدو لي مهماً للاطلاع على نمط التفكير السائد لدى الكثير من كُتّاب الزوايا، وخاصة مع سيطرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شبه الكاملة على وسائل الإعلام التركية، ولكن الغريب في الأمر أنك تجد هؤلاء أمام خطاب عام 2011 نفسه، وكأن شيئاً لم يتغير، أو كأن الأكاذيب التي روج لها لم تُكشف، ولم تتحول إلى فضائح فاحت رائحتها في كل مكان، الأخطر من كل ذلك أنك تجد خطاباً أحادياً مغلقاً، خطاباً يكفّر الجميع، روسيا وإيران والصين وأوروبا والدول العربية وحتى أميركا، فقط وحدها تركيا أردوغان هي حامية الحمى، والمدافعة عن المظلومين والمقهورين، وعن حقوق الإنسان!
هذا الخطاب يعكس ذهنية الإخوان المسلمين ونفاقهم، فنقرأ مثلاً مقال ياسين أوكتاي في «يني شفق» حيث يهاجم روسيا، ويتهم جيشها بأنه آلة قتل ممنهجة، ويتباكى على المدنيين السوريين، ويرمي رقم مليون نازح من إدلب، في مقاله لاستنفار العواطف وتأجيجها، والرقم هنا مهم جداً، وخاصة أن الآلة الإعلامية التركية لم تعتمد رقماً محدداً لهؤلاء، فمثلاً يزيد برهان الدين دوران في «صباح ديلي» رقم المليون ليصبح ملايين النازحين، أما الأطرف من ذلك فإن الكاتب محي الدين آتامان في «صباح ديلي» يثبت رقم خمسمئة ألف قتيل بالكيميائي والبراميل في سورية، على حين أن زكريا كارسون في «يني شفق» يتحدث عن مليون قتيل و12 مليون مهجر، وهكذا يقفز الرقم من مقال إلى آخر خمسمئة ألف قتيل فقط لا غير، من دون أن يتنبه هؤلاء إلى أن هناك من يقرأ ويتابع ويدقق، وأن استجرار العواطف لم يعد مجدياً بعد عشر سنوات من الكذب والنفاق باسم الإنسانية، وحقوق الإنسان والمستضعفين، ولا يخبرنا هؤلاء من أين لهم هذه الأرقام التي تقفز بين مقال وآخر نصف مليون، ويصبح النازحون من إدلب في أحد المقالات مليون نازح، وفي مقال آخر ملايين من النازحين، هذا يكشف ويعري هذه الصحافة التي تكذب في الادعاءات وفي الأرقام وفي الحجج، فيتحول كل العالم إلى قاتل ومجرم وساكت عن الظلم، باستثناء إخونجية أردوغان.
من الأسطوانة المشروخة التي ما زال كُتّاب الزوايا في الصحافة التركية يجترون منها، ويكررونها هي قضية استخدام الكيميائي، والأسلحة الكيميائية، وقصة البراميل التي قتلت حسب محي الدين آتامان 500 ألف بريء مدني، هكذا جاء الإلهام لآتامان بهذا الرقم، من دون أن يكلف نفسه الاطلاع على مقال سيمور هيرش الأميركي حول كيف تم تهريب السارين إلى سورية عبر شبكات متخصصة من خلال تركيا، وبمعرفة رئيس جهاز مخابراتها حقان فيدان، أو يكلف نفسه عناء الاطلاع على التقارير المزورة في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، لكن المطلوب من هؤلاء ليس الحقائق التي تفضح دورهم، وإنما تزوير الحقائق التي ما زالوا مستمرين فيها حتى الآن، وخاصة أن انكشافها سيسقط مشروعهم العثماني إلى الأبد.
كتّاب زوايا آخرون لا يستطيعون إلا أن يظهروا النفحة العثمانية للمشروع، والخلفية الحقيقية لسياسة أردوغان، فيكتب زكريا كارسون في صحيفة الحزب الحاكم «يني شفق»، أن القضية السورية، والقضية الفلسطينية هما قضيتان تاريخيتان وإنسانيتان، وأن هدف تركيا كما يدعي هو تحقيق الحرية لمن هم على ديننا، كما يقول، ومن هم خارج حدودنا الوطنية، ولكني لم أفهم من السيد كارسون عن أي دين يتحدث، وما المقصود بـمصطلح «ديننا»! ومع ذلك لا يتوقف كارسون عن إيضاح الأمر عندما يكتب: خلاصة القول القضية الفلسطينية والسورية هما الميراث التاريخي للدولة التركية، وهنا تظهر وتفوح رائحة النفاق الإخواني والعثماني، ولا يخفي هذا الكاتب وغيره أن هناك محاولة إحياء لجثة هامدة اسمها السلطنة العثمانية، والحقيقة أن الشباب لا يموهون بالاسم العثماني، إنما يقولون «التركي»، وهو الاتجاه نفسه الذي أطاح بالرجل المريض بدايات القرن العشرين.
على أي حال فإن النفاق بما يسمونه القضية السورية سقط، وانتهى مع تقدم جيشنا البطل، وإنجازاته العسكرية، لأن هذا التقدم والتحرير سيسقطان هذه الورقة المفضوحة التي لا تصمد أمام أي نقاش علمي أو تاريخي، ولكن الحديث عن فلسطين هو أمر مضحك آخر من طروحات صحافة أردوغان، لأن هؤلاء كما يقول الخبير العامل مع أحد مراكز البحوث الألمانية كريستيان بريكل، يستخدمون هذه اللغة، والتصريحات حول القدس وفلسطين للتلاعب بمشاعر المسلمين والأتراك لهدف انتخابي بحت، ولكسب العواطف، وقضية فلسطين هي مادة لجني الأصوات ليس إلا!
يشير هذا الخبير إلى أن تركيا هي أول بلد إسلامي اعترف بـإسرائيل، وينقل عن أحد مستشاري أردوغان أن العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل تقوم على قاعدة «رابح رابح» للطرفين، وأن حجم التبادل التجاري تزايد في عهد أردوغان إلى 5-6 مليارات دولار، وبالتالي فإن هؤلاء المتاجرين بفلسطين، ينسون أن مجرد محاربة سورية هي حرب على فلسطين، وأن كل من يشكل خطراً على إسرائيل كان هدفاً لمنظومة أردوغان الإرهابية، وإعلامه المنافق.
الطريف في الأمر أن الخبير كريستيان بريكل، يعلق على نبرة الخطابات السياسية العالية لأردوغان ضد نتنياهو حول الديمقراطية والإنسانية بأنه ينتابك شعور الدجاجة التي تحاول أن تعلم البطريق كيف يطير! فلا أردوغان ولا رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو لديهما السمعة والاسم للدفاع عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، فالمصالح مستمرة ولا تتوقف، وبالتالي عن أي فلسطين يتحدثون!
إن مجمل ادعاءات صحافة أردوغان حول الوقوف مع المظلومين، والمواقف الإنسانية والإسلام وفلسطين، والتباكي على السوريين، لم تعد تقنع الدجاجة ولا البطريق، ولم تعد تساوي قيمة الحبر الذي تكتب به، فالكذب يجب أن يتوقف، وما قاله نائب وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد قبل أيام عن أن أردوغان يتنفس بالكذب، هو صحيح، وبالطبع صحافته كذلك، وإسطوانتها المشروخة التي تمزقت وأصبحت إرباً إرباً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن