ثقافة وفن

حلب في ضمير المبدعين وذاكرة الشعراء … ألهمت شكسبير وتغزل بها المتنبي وتغنى بها نزار قباني واستذكرتها أغاثا كريستي وزارها ابن بطوطة

| وائل العدس

لم ولن يكون شهر شباط الحالي كأي شهر آخر، بعدما شهد تحرير حلب الشهباء من دنس الإرهاب، في انتصار كبير تحقق بفضل تضحيات بواسل الجيش العربي السوري الذين أعادوا الأمن والأمان.
ولا شك أن انتصار جيش الوطن، وتوسيع مساحة الأمان لمدينة حلب وإعادة فتح طريق دمشق حلب الدولي تطبيق عملي لإرادة وعزم وثبات قيادة وشعب وجيش سورية والإصرار على تحرير كل شبر من تراب الوطن.

حلب والشعر
حلب كانت ملهمة الأدباء والشعراء، فسكنت ضمائرهم ومشاعرهم، وحضنت الشعر، وألهمت أعظمهم.
وتعتبر حلب حضارياً من أهم مدن العالم قاطبة وأقدم مدن الشرق والغرب التي لم تزل قائمة حتى يومنا هذا، كما تعتبر مدينة عريقة في الأدب والشعر ومدحها الكثير من الشعراء، وفيها ترعرع أعظم شعراء العرب.

العصر القديم
لعل أشهر قصيدة كانت للمتنبي أعظم شعراء العربية، في وصف حلب «ما لنا كلنا جو يا رسول» ويقول فيها بيته الشهير:
لا أقمنا على مكان وإن طاب
ولا يمكن المكان الرحيل
كلما رحبت بنا الروض قلنا
حلب قصدنا وأنت السبيل
فيك مرعى جيادنا والمطايا
وإليها وجيفنا والذميل
وقال أبو فراس الحمداني مادحاً شهباء:
سقى ثرى حلب ما دمت ساكنها
يا بدر غيثان منهل ومنبجلس
أسير عنها وقلبي في المقام بها
كأن مهري لثقل السير محتبس
هذا ولولا الذي قلب صاحبه
من البلابل لم يقلق به فرس
كأنما الأرض والبلدان موحشة
وربعها دونهن العامر الأنس
مثل الحصاة التي يرمي بها أبداً
إلى السماء فترقى ثم تنعكس
كما قال فيها البحتري ابن منبج وأحد أشهر شعراء العصر العباسي:
أمرر على حلب ذات البساتين
والمنظر السهل والعيش الأفانين
لكن أكثر من امتدح حلب كان شاعرها أبا بكر محمد بن الحسن، المعروف بالصنوبري:
سقى حلب المزن مغنى حلب
فكم وصلت طربا بالطرب
وكم مستطاب من العيش لذ
بها إذ بها العيش لم يستطب
إذا نشر الزهر إعلامه
بها ومطارفه والعذب
غدا وحواشيه من فضة
تروق وأوساطه من ذهب
وله قصيدة طويلة مطلعها: «احبسا العيس احبساها.. وسلا الدار سلاها»، أجاد بها ووصف منتزهاتها وقراها القريبة منها، وأوردها ياقوت الحموي، في «معجم البلدان»، كاملة.
وقال بها الشاعر الفارسي كشاجم الذي استقر في حلب بعد تنقله في عدة مدن عربية:
أرتك ندى الغيث آثارها
وأخرجت الأرض أزهارها
وما أمتعت جارها بلدة
كما أمتعت حلب جارها
هي الخيد يجمع ما تشتهي
فزرها، فطوبى لمن زارها
أما أبو العلاء المعري ابن إدلب وشاعر العصر العباسي، فقد رأى أن حلب علاج ودواء، فقال، في «رسالة الغفران»:
يا شاكي النوب انهض طالبا حلبا
نهوض مضنى لحسم الداء ملتمس
واخلع إذا حاذيتها ورعا
كفعل موسى كليم اللـه في القدس
كما وصفها:
حلب للوارد جنة عدن
وهي للغادرين نار سعير
والعظيم العظيم يكبر في عينه
منها قدر الصغير الصغير
وحتى مؤسس الدولة الأيوبية صلاح الدين الأيوبي تغزل بها قائلاً:
إذا حلب وافيتها حيّ أهلها
وقل لهم: مشتاقكم لم يهوّم
ووصل صيت حلب إلى غرناطة، فقال بها أبو الحسن الغرناطي:
حلب أنها مقر غرامي
ومرامي وقبلة الأشواق
وعلو الشهباء حيث استدارت
أنجم الأفق حولها كالنطاق

الشعر الحديث
أما في الشعر الحديث، فقال عنها الشاعر السوري الكبير نزار قباني:
كل الدروب لدى الأوروبيين توصل إلى روما
كل الدروب لدى العرب توصل إلى الشعر
وكل دروب الحب توصل إلى حلب
صحيح أن موعدي مع حلب تأخر ربع قرن
وصحيح أن النساء الجميلات لا يغفرن لرجل
لا ذاكرة له ولا يتسامحن مع رجل لا ينظر
في أوراقه الروزنامة
ولا يقدم لهن فروض العشق اليومي
كل هذا صحيح ولكن النساء الجميلات وحلب
واحدة منهن
يعرفن أيضاً أن الرجل الذي يبقى صامداً في نار العشق
خمسا وعشرين سنة ويجيء ولو بعد خمس وعشرين سنة
هو رجل يعرف كيف يحب ويعرف من يحب
ربما لم أضع حلب على خريطتي الشعرية
وهذه إحدى أكبر خطاياي ولكن حلب كانت دائماً
على خريطة عواطفي وكانت تختبئ في شراييني
كما يختبئ الكحل في العين السوداء
وكما يختبئ السكر في حبة العنب
واليوم تتفجر الحلاوة كلها على فمي
فلا أعرف من أين يبدأ الشعر ومن أين
يبدأ النبيذ ومن أين تبتدأ الشفة
ومن أين تبتدأ القبلة
ومن أين تبتدأ دموعي
ومن أين تبتدأ حلب
لا أريد أن أتغزل بحلب كثيراً
حتى لا تطمع
ولا أريد أن أتكلم عن الحب
بقدر ما أريد أن أحب
كلماتنا في الحب تقتل حبنا
إن حروفنا تموت حين تقال
كل ما أريد أن أقوله إن حب النساء
وحب المدن قضاء وقدر
وها أنذا في حلب
لأواجه قدراً من أجمل أقداري
أما «شاعر الحب والهوى» و«شاعر الصبا والجمال» الأخطل الصغير وصف حلب، قائلاً:
نفيت عنك العلة والظرف والأدبا
وإن خلقت لها أن لم تزر حلبا
لو ألف المجد سفرا عن مفاخره
لراح يكتب في عنوانه حلبا
وتغنى بها الشاعر اللبناني خليل مطران:
أي هذه الشهباء
والحسن في ذلك الشهب
حبذا في ثراك ما
فيه من عنصر الشهب
ذلك العنصر الذي
ظل حراً ولم يشب
عنصراً قد أصاب منه
ابن حمدان ما أحب
وبه «أحمد» ارتقى
ذروة الشعر في العرب
كما قال الأديب اللبناني جبران خليل جبران فيها:
ضاق بالسرعة الفضاء
ولم يبق مغترب
يدرك الشأو أو يكاد
متى أزمع الطلب
أرز لبنان هاكسة
حلب هذه حلب
وقال بها:
ما الذي أنجبت حلب
من جمال هو العجب
ومن اللطف والحجي
ومن الظرف والأرب

وجع حلب
كان أبرز ما استحضرت به حلب في الوجع، قصيدة محمود درويش المطولة الشهيرة: «مديح الظل العالي»، والتي قال بها:
قصب هياكلنا
وعروشنا قصب
في كل مئذنة
حاوٍ، ومغتصب
يدعو لأندلس
إن حوصرت حلب

الأدب الغربي
ولعل حلب واحدة من المدن النادرة القليلة التي وصلت إلى الأدب الغربي، حيث وردت في مسرحيتي «ماكبث، وعطيل» فترة الاحتلال العثماني، وأبدى وليام شكسبير انتقاده لهذا الاحتلال، فيقول شكسبير في مسرحية «عطيل»:
دموعا سراعا كما تدر أشجار العرب‏
صمغها الشافي هذا دونوه‏
وقولوا أيضاً أنني ذات مرة في حلب ‏
حيث هوى تركي شرير معمم‏
على بندقي بالضرب وأهان الدولة‏
أمسكت بالكلب من عنقه‏
وضربته هكذا «يطعن نفسه»
وفي حلب، بدأت أغاثا كريستي بكتابة أهم رواياتها: «جريمة في القطار السريع»، في فندق البارون، عام 1935، والتي أوردت بها حلب، قائلة: «يجب أن تكون هنا حلب، مكاناً خفيف الإضاءة بأصوات مزعجة باللغة العربية».

ابن بطوطة
الرحالة والمؤرخ والقاضي وابن طنجة المغربية ابن بطوطة فقال بعد زيارته لحلب في القرن الثالث عشر: «حلب من أعز البلاد التي لا نظير لها في حسن الوضع وإتقان الترتيب واتساع الأسواق وانتظام بعضها ببعض، وأسواقها مسقفة بالخشب، فأهلها دائماً في ظل ممدود وقيثارتها التي لا تماثل حسناً وكبراً وهي تحيط بمسجدها، وهي من المدن التي تصلح للخلافة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن