قضايا وآراء

ألمانيا إذ تقرع جرس الإنذار

| عبد المنعم علي عيسى

عندما تتخذ ألمانيا وضعية الواعظ الذي يسعى إلى تسويق المبررات التي اضطرته إلى قرع جرس الإنذار، فإن الصدى الذي يلقاه الفعلان، أي وضعية الوعظ وقرع الجرس، في الذات الجماعية الأوروبية والغربية عموماً، يصبح بالضرورة ذا وقع مختلف لدى الاثنين، إذ لطالما انغرس في ذينك الذاتين عبر أجيالهما المتلاحقة موروث «راسخ» يحمل ألمانيا مسؤولية نشوب حربين عالميتين كانت حصيلتاهما تزيد على ستين مليون قتيل في غضون ربع قرن لا يزيد، على الرغم من أن الفعل، أي تحميل الغرب مسؤولية ذينك الحربين للألمان، فيه الكثير من الإجحاف ومن الممكن أن يقال فيه الكثير.
افتتح الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير الدورة الـ56 لمؤتمر ميونيخ للأمن التي انعقدت بين 14-16 شباط الجاري بخطاب كان أهم ما جاء فيه قوله إن السياسة العالمية تتجه نحو «أوقات أكثر سواداً»، وفسر ذلك بأن العودة إلى المصالح الوطنية «الضيقة» في هذه الفترة هي «التي تقودنا إلى طريق مسدود»، وفي السياق وجه الرئيس الألماني انتقاداً «مباشراً» لروسيا والصين، ولم يوفر الولايات المتحدة وإن كان قد ذهب إلى فصل ما بين سياسات هذي الأخيرة السابقة وبين نظيرتها لدى «الإدارة الحالية» التي قال إنها «ترفض أصلاً» فكرة المجتمع الدولي.
نشأت فكرة المؤتمر في العام 1963 كاجتماع ألماني أميركي يسعى إلى استئصال جذور النازية بكل تجلياتها، فقد كان عراب التأسيس هو الألماني هاينرش فون كلايست الذي اشتهر بأنه أحد رموز مناهضة «الرايخ الثالث»، أما استحضار المكان فكان كما يبدو محاولة لإلغاء تراث معاهدة ميونيخ 30 كانون أول 1938 التي كانت أقرب إلى حالة استجداء فرنسية بريطانية للسلام الألماني عبر إقرار الأولين بضم «الرايخ الألماني» لمنطقة «السوديت» التابعة حينها لتشيكوسلوفاكيا، ولربما لم يخطر في ذهن المقرين بذلك الضم آنذاك أن الفعل نفسه سيكون مدخلاً، ومحفزاً في آن، للحرب التي اندلعت بعد أشهر قليلة على تلك المعاهدة، إذ لطالما كانت عملية استجداء السلام عبر التاريخ غالباً ما تشير إلى حال من الضعف تدفع نحو الحرب.
حدثت تحولات عديدة على بنية وأهداف المؤتمر الذي حمل اسمه الراهن بدءاً من العام 1994 بعد أن كان قد حمل اسم «ملتقى العلوم العسكرية الدولي» عند تأسيسه، لكنه لم يمتلك هذا الزخم الذي يمتلكه راهناً إلا في العام 1999 عندما انضمت إليه دول شرق أوروبا والهند والصين واليابان.
غالباً ما تشكل اللقاءات السرية، التي تعقد في غرف خصصت لها في فندق «بايرشير هوف» الفاره، المحاور الأهم في الأجندة التي يرمي إليها المنظمون، وعليه فإن المسائل المطروحة في القاعة الأساسية وعلى مرأى من كاميرات الإعلام تصبح من الدرجة الثانية أو الثالثة، مما يمكن النظر إليه إلى الملف النووي الإيراني والملف الليبي وفيروس كورونا وهي الملفات التي أدرجت لهذا العام كقضايا ملحة تهدد الأمن العالمي، على حين أن الملفات الأهم التي أدرجت في الغرف السرية، مما يمكن لحظه عبر التصريحات التي أعقبت اللقاءات السرية، تصبح عند قضايا من نوع واقع الغرب في العالم، حيث يعيش قادة هذا الأخير قلقاً تجاه تراجع تأثير بلدانهم في السياسة العالمية، وفي هذا السياق يمكن تسجيل حال من الخلاف الأوروبي الأميركي حول الدور الذي تلعبه أميركا في استقرار الأمن العالمي، وكذا خلاف أوروبي – أوروبي حول دفاع الأوروبيين عن بلدانهم وقارتهم واتحادهم الذي شهد قبل أسبوعين من انعقاد المؤتمر خروج العصب البريطاني من هذا الأخير، وفي هذا السياق الأخير كان من اللافت بروز خلاف فرنسي ألماني حول النظرة إلى الدور الروسي في بعديه العالمي والأوروبي، ففي الوقت الذي وصف فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذلك الدور بـ«العدواني» الذي يسعى إلى زعزعة استقرار الديمقراطيات الغربية، ارتأت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وجوب فتح قنوات الحوار مع روسيا على كل المستويات، ولمحور برلين- باريس الكثير من الدلالات في حالتي التقارب أو التباعد وسط القارة العجوز.
انعقدت دورة مؤتمر ميونيخ الـ56 على وقع تقرير نشره المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، الذي يعتبر إلى جانب معهد استوكهولم، واحداً من أهم معهدين في دراسة الصراعات الدولية، والتقرير أشار إلى أن نسبة الإنفاق العالمي لعام 2019 قد زادت بنسبة 4 بالمئة عن العام السابق لهذا الأخير، وإذا ما كان التسلح يمثّل في أحايين عدة «ضمانة» لحفظ السلام، خصوصاً إذا ما تزامن ذلك مع قيام تحالفات ترسي توازنات راسخة في موازين القوى العالمية، فإنه في مقلب آخر يعني أن الساعين إليه مسكونون بهاجس الحرب خصوصا في ظل مناخات تشي بالافتراقات لا بالتلاقيات عند سفوح السلام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن