ثقافة وفن

الكورونا تصارع العولمة على طاولة الروليت!

| د. منير الجبّان

أول ما هفّت رائحة «العولمة» في ثمانينات القرن الماضي صدف أن استضفت في عدة حلقات من برنامج تلفزيوني حواري كنت أقدمه على شاشة التلفزيون السوري مجموعة من كبار المثقفين السوريين والعرب حاولت معهم أن يجترحوا معنى يصل إلى الناس عن مفهومها ومعناها ومغزاها، ولا أذكر أنهم توافقوا أو اتفقوا فاجترحوا معنى أو مغزى يتوافقون على تعريف له يفيد المشاهد، فكان لكل واحد منهم اجتهاده في بدئها ومنتهاها وفتواه في مفهومها الغائم وفِي تشابكاتها العنكبوتية، منه ما هو اقتصادي ومنه ما هو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، وما يكاد الحوار أن يتفق على العموميات حتى يعود فينفرط في الجزئيات فلَم يضف ذلك إلى مفهوم العولمة إلا تشويشاً وارتباكاً، ومنهم من ذهب إلى أنها تورّم حميد لكوكب واحد يغرق في العسل، ومنهم من رأى فيها ورماً خبيثاً يتفشى في جسم هجين يتقاسمون فيه أجزاءه المتهالكة في خطة لئيمة غايتها اختراق هوياته والاستيلاء على قراره وطمس تاريخه وتفتيت جغرافيته، وبعد أن انتهى البرنامج وكان على الهواء همس في أذني أحد الضيوف أنه خرج من الحوار أكثر التباساً وإشكالاً حول العولمة وأصلها وفصلها ورثى لحال المشاهد الذي تحمل ثرثرة لاشك أنها سببت له عوارض الإسهال، ما استدعى هذه الخواطر إلى الذهن اليوم هو «الكورونا» ومشهد سيريالي لأكثر من مئة وخمسين دولة تتخبط في أخطر كارثة صحية اجتماعية أخلاقية وإنسانية وكلُّ «ربي نفسي» النجاة لي ومن بعدي الطوفان يريد النجاة بنفسه ولو على عكّاز من قصب.
لقد عصفت الكورونا ببورصات العالم وكسرت أضلاع أسهمه ودحرجت براميل نفطه وأصيبت الصناعة والتجارة والسياحة والفنادق والمطاعم والمصارف والطيران والجامعات والمدارس والمؤسسات بكل فعالياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والترفيهية والرياضية وبكل أشكالها وأنشطتها بسهام الكورونا فأربكتها وعطّلتها وقد تصل إلى المؤسسة الأسرية تؤخر زيجات وشهور عسل، فصالات الأفراح أغلقت أبوابها ونصحتهم أن يفتحوا هذه المرّة برميل العسل بالمقلوب، وكادت تشعل حرباً غير معلنة بين أميركا والصين وأتباعهما تغلفها شكوك وأوهام وارتياب وتكهن وتخمين قد تفتح أبواباً صعب أن تُغلق، وتغرق كل فسطاط منهما في نظريات المؤامرة والمؤامرة المضادة وتُهيّج السكن وتُصمت المتحرك والمستفيد يتفرج. لقد انكشفت كما ضوء الشمس هشاشة العولمة وأن العالم ليس واحداً بل هو شعوب ودول وثقافات متباينة ومتباعدة، بلمح البصر يمكن أن تنكفئ على نفسها، همها توفير حتى الحد الأدنى من العيش لشعوبها قبل أن تعصف بها الشرور من خارجها كحجارة من سجيل. مشهد عجائبي يفرط وبلا صفارة إنذار عقد العولمة الذي حسب أصحابه أنه عنقود عنب ونسوا أن عنقود العنب إن وقع بيد سارقه يفرط قبل أن تصل حباته إلى حلقه.
الكورونا هيّجت الحواس الغافية لاستطلاع الجوانب غير المرئية من المشهد السريالي وكشفت ورقة التوت عن عورة العولمة وانتُهكت عذريتها وأجهضت الحمل غير الشرعي قبل أن يقيد الفاعل ضد مجهول، ضاعت منها البوصلة، كل سفينة فيها تصارع الموج الصارخ للوصول إلى شاطئ ترسو فيه، وقد يمر وقت قبل أن يصحو العالم على حقيقة أن الكورونا لم تحصد فقط الآلاف من البشر في عالم ظنوه واحداً وهو زُمرٌ وأنفار لكنها حصدت معه وإلى غير رجعة العولمة التي أرجعوا يوماً نسبها إلى جنكيز خان إلى هشيم لن يخلّف إلا هباباً وشيئاً من رماد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن