ثقافة وفن

مسرح جسدي سوري عن رواية الحمامة لـ«باتريك زوسكيند»…مسرحية «زيارة ذاتيّة»… بين رقص وتمثيل وأداء ومن كلّ بستانٍ زهرة

عامر فؤاد عامر

 

يستعمل الجميع مثلاً دارجاً في الحياة هو: «من راقب الناس مات همّاً»، لكن لدى قراءة هذا المثل بعمق سنلاحظ معناه الخفي، فالمقصود بالمراقبة التي مؤداها الموت هنا هي المراقبة التي تجعل من الشخص أكثر تمعناً في نجاح العنصر المُراقَب من المُراقِب، والذي ستلتف عليه حالة من المقارنة بين إنجازات الطرف المقابل وإنجازاته الخاصّة متناسياً المؤهلات وعوامل أخرى كثيرة، وبالتالي سيصل لنتيجة مفادها إنه يشعر بظلم الحياة معه وكرمها مع غيره، ويبدو أن مسرحيّة «زيارة ذاتيّة» ركزّت على هذا الجانب بصورة واضحة، إضافة للكثير من الجوانب المرافقة التي جاءت لكن بأهمية أقل.

مراقب دوام في «الحمامة»
النص من رواية «الحمامة» لمؤلفها «باتريك زوسكيند» وهي تروي قصة مراقب في بنك، يعمل في هذا الميدان وبعد مرور 55 ألف ساعة عمل سنجد حياته موسومة بالروتين والإحباط القاتل. من مهنة المراقبة تلك تمّت الإشارة إلى كلّ تفاصيل حياة هذا الشخص، إن داخليّاً عبر أحاسيس باطنيّة وانفعالات وردّات فعل وبلادة وغيرها، أو من خلال تصرفات خارجيّة لازمته بسبب وقت الدوام، ونمط اللباس المفروض، وحركة العين للمراقبة الدائمة، وغيرها الكثير من التفاصيل.

ثلاثيّة الأبعاد
الإخراج، والتمثيل، والأداء الراقص جاء للفنان «حسين خضور» الذي قدّم بصورة واضحة حالاتٍ نفسيّة غاية في الدقة، فكانت مهمة قاسية، بأن يوصل شعوراً نفسيّاً دقيقاً، ويعبّر عنه بفعلٍ أو رقصةٍ للمتلقي، فالسكون والجمود الذي لفّ حياة موظف البنك كان قاتلاً، وكبّل الأسلوب لدرجة أن التحرر أصبح محاولةً أو مستحيلاً، فكان اللعب لدى «خضور» بين لحظة سكون، ولحظة حركة، وما بينهما من انتقال، وهذا الإيقاع لا بدّ يحتاج إلى اهتمامٍ، وانتباهٍ، عاليين، سواء في مرحلة التحضير التي امتدّت قرابة الأشهر الثمانية، أو من خلال العرض المباشر أمام الجمهور، الذي كان في القاعة المتعددة الاستعمالات لدار الأسد للثقافة والفنون في دمشق، ولمدّة ثلاثة أيام متتالية.

الأوّل عالميّاً وعربيّاً
يعدّ العرض مميزاً في عدّة نواحٍ منها أنه قُدم لأوّل مرّة في العالم العربي، من مبدأ نصّ مسرحي مأخوذ عن الرواية الأمّ «الحمامة»، مع العلم أنه تمّ عرضه مسبقاً في تجربة مسرحية في أوروبا لكن ليس كالتجربة التي قدّمت في سورية والتي تميزت بأنها مسرح حركي لم يلجأ خلاله الممثل لنطق أي كلمة، وبذلك يكون عرض زيارة ذاتية الأول عالميّاً من حيث إنه مسرح جسدي، وعن هذا الجهد تحدثنا الدراماتورج، ومساعد المخرج «هبة محرز»: «في التحضير لهذا العمل أمضينا المدّة من آب 2014 إلى 14 نيسان 2015 وهو موعد العرض الأول أمام الجمهور في سورية، وقد عملنا على تحليل النص بصورة مشتركة، وتعاونّا كمجموعة للوصول إلى هذا الجهد بهذه الصورة الأخيرة، وبالتالي كانت هناك صعوبات وتحديات استطعنا أن نتغلب عليها. لكن حتى تمكنّا من ذلك وصلنا لحالة من الانسجام، والعمل المشترك، والإنساني، بيننا كمجموعة، فنحن أشخاص عملنا على تبني العمل مع شعور بالمسؤولية». وقد أشارت «محرز» أيضاً إلى أن المسرح الحركي حديث الولادة في العالم العربي، وتابعت قولها: «العمل ينكفئ تحت مصطلح المسرح الجسدي أو الحركي، ويعتمد على الجسد الإنساني، ولا يعتمد على النطق والكلام، وهذا له علاقة بجمع عدّة أنواع من الفنون، ففيه الرقص، لكنه ليس تابعاً لنوع محدد من الرقص، وفيه التمثيل، أو شيء من التمثيل، أو تبني الممثل، إذا هو بين الرقص والتمثيل والأداء، فهو مكان جديد، ومختلف، والمسرح الحركي عموماً حديث العهد لدينا، وما يفرحني أنه نص روائي مهم قدّمناه كمسرحية تحت إطار المسرح الجسدي لأوّل مرّة عالميّاً وأمام الجمهور في سورية».

التقاط
بين الحركات الجسدية التي تميّزت وأظهرت مقدرة «خضور» في الأداء الحركي، كان هناك بعض الحركات التي ذكرتنا بفيلم (the matrex) والتي جاءت إلى حدٍّ كبير دخيلة على المشهد بصورةٍ عامة، ولا نعلم مدى ضرورتها لتدخل في صلب العرض، إلا أنها أضحت كاستعراضٍ للمقدرة على تأديتها من العارض.

غير مبرر
أيضاً من الملاحظات التي يمكن لنا التعليق عليها أن العرض في بدايته وجّهت أنظار الجمهور نحو كلمة «بنك الانفتاح» وهي أول مشهد، لكنها مع مرور الوقت باتت غير مبررة، وعلى وجه الخصوص، لمن لم يقرأ الرواية الأصليّة، فهناك غموض واضح بين كلمة الانفتاح، وكلمة بنك للمتلقي، إلا إذا توقع كادر عمل المسرحيّة أن جميع من سيشاهد العرض كان على اطلاع مسبّق برواية «باتريك زوسكيند»!

خلطة غموض وبساطة
في العرض أيضاً الكثير من الدقة في وصف الحياة الداخليّة لبطلها «مراقب الدوام» فهناك بيت وهناك مكان العمل «المصرف» وفي كليهما مونولوج داخلي متغير مع المؤثر الخارجي ابتداء من صوت المنبه إلى صوت الشارع، وفي لحظة المفاجأة من الحمامة التي ظهرت فجأة في طريق البطل كانت ردّة الفعل غامضة ويمكن أن تحمل عدّة اتجاهات فالخوف من الحمامة هو لغة تحد لانعتاقه من حالة الجمود التي قطنت كيانه فبات أكثر جبناً مما هو متوقع لينتقل في فاصل التبوّل على النبتة إلى رقصة بدائية تشبه العودة إلى الأصول الداخلية والتحدي من نقطة الصفر، لكن هذه الخطوات لربما حملت نوعاً من الارتباك لدى المتلقي فسلسلة ربطها باتت مشوّشة بين لحظة المفاجأة ولماذا كانت ولحظة التبول ورغبة الجمهور في الضحك المكبوت ثم ملاحظة كثرة الارتجافات التي قام بها الممثل والانعتاق في رقصة الطائر، وكل ذلك وغيره من التفاصيل كان لا بدّ بحاجة إلى مزيد من التوضيح، لكن بين هذا الغموض وبين مشاهد أخرى جاءت لغة الوضوح فيها بسيطة جداً لدرجة الضعف، فاستخدام «مراقب الدوام» لكلمات مكتوبة لتوضيح ما ينوي القيام به، هو دلالة ذات وجهين الأول عدم الثقة بمقدرة المتلقي على فهم ما ينوي إليه ذلك الموظف، وثانياً عدم التناغم مع اللغة التي انطلق بها العرض الذي سار إلى حدّ كبير لتفهيم الجميع صعوبة التعامل مع الحياة الروتينية وأقصد بذلك جملة «بكرا بدي انتحر» جاءت شديدة الوضوح.

الموسيقا بطلة
للموسيقا إيقاعها الساحر والخاصّ في عرض «زيارة ذاتية» فكانت تظهر فقط لحظة الحاجة إليها، ولذلك وجدنا أن بعض المشاهد لم تحتو على مقاطع موسيقيّة بل حملت تأثيراتٍ لأصوات خارجيّة، كصوت المنبه أو صوت الحمام أو الشارع وغيرها، لكن مع وجودها المقطع الموسيقي كان الإيقاع ساحراً فلها خطّها الخاص والواضح، وهذا التأليف الموسيقي كان للفنان «حسين عطفة» الذي اعتمد حالة البساطة في النقلة بين الموسيقا والسكون، وهو إيقاع يتناغم مع الشكل العام للعرض، وفي ذلك يتحدث «عطفة»: «عندما نقرأ رواية «الحمامة» سيتشكل لدينا مجموعة من الانطباعات النفسيّة والداخليّة، ولذلك حاولت أن تكون الموسيقا ذات انطباع يختص بهذا التداخل فجعلتها تحاوره وتحاكيه، بهدف أن تعطي الجوهر الحقيقي للشخصيّة، الذي قد لا يظهر فقط من خلال قراءة الرواية وخاصّة أنها دخلت حيّز التجسدّ على المسرح، فحاولت من هذه المحاكاة أن أقدّم هذا الانطباع الداخلي، ففي موسيقا المشهد الأخير وعندما يتحول البطل إلى حمامة حاولت أن تكون الموسيقا حاملاً له ليتحرر من القيود وتصبح هذه الحمامة في السماء».

لغة التعاون
أيضاً التقينا مساعد الصوت يامن خميس الذي أضاف لنا عن لغة التمازج بين الصوت والتعاون مع كادر العمل، فأضاف: «تطلبت بعض جوانب هذه المسرحيّة، في تنفيذ الموسيقا والصوت، خصوصيّة معينة كمصدر الصوت لمقاربة الواقع، فهناك جزآن في العرض مساحة داخليّة، تجلت في البيت، ومساحة خارجيّة، اختص بها مكان العمل، فالصوت في كلتا المساحتين مصدره يختلف، ولا بد من العمل بدقة على هذا الموضوع، لأنه سيخدم العرض في النهاية، ليظهر بصورة قريبة من الواقع، وعملنا في هذا العرض هو أن الموسيقا يجب أن تكون بمستوى محدد، وتأثير توزيع الصوت في المكان يؤثر في الشيء المرئي، ويؤثر في المتلقي بصورةٍ عامة، وفي هذا العرض لا بدّ من مراعاة أن كلّ يوم لا يشبه الآخر، أي تجدد اليوم يجب أن يترافق مع تجدد هذا الصوت، بالتالي يجب ألا يكون هناك تشابه».
زيارة ذاتية مسرح جسدي عن رواية «الحمامة» للكاتب «باتريك زوسكيند».
دراماتورج- مساعد مخرج: هبة محرز.
إخراج «كريوغراف» أداء: حسين خضور.
التأليف الموسيقي: حسين عطفة
سينوغراف: ولاء طرقجي.
إنتاج: حسين خضور بالتعاون مع مؤسسة مواطنون فنانون.
سيعرض قريباً على مسرح الحمراء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن