ثقافة وفن

من ينتظر ومن لا ينتظر! «1»

| إسماعيل مروة

فلسفة الانتظار التي نمارسها نحن العرب تلفت الانتباه، وتحدد مصيرنا ومصائر بلداننا، سواء كان ذلك الانتظار على المستوى السياسي، أم الاقتصادي، أو الديني أو الفكري العلمي، وأزعم أن فلسفة الانتظار هذه جاءتنا من العقيدة سواء كانت مسيحية شرقية أم إسلامية، فنحن ننتظر مثوبة أعمالنا والتزامنا، ولكن المشكلة كانت في فهمنا لفلسفة الانتظار من دون أن نقوم بأي عمل، فيسوع تقدم في طريق الجلجلة وهو يطلب المغفرة للناس الذين لا يعلمون، ولكنه كان يسير بعزم في هذا الطريق، ومحمد رفض أن يطبق عليهم الأخشبان لعله يخرج من أصلابهم إنسان خيّر موحّد، ولكنه تقدم إلى دعوته متألماً مجرّحاً..
هذه الفلسفة العميقة التي تربط ما بين العمل والانتظار لم نعمل عليها، وإنما أخذنا جانب التسليم والانتظار، وهذا يناسب العقل السكوني الذي هيمن علينا منذ قرون، ويريحنا من العمل المبدع والمتعب، ويجعل بلداننا في مكان المفعولية، لأن الانتظار فعل سلبي لا مبادرة فيه تجاه ما يجب وما نريد وما ينبغي، ولو قرأنا على الدوام مجريات الأحداث، فنحن انتظرنا المماليك والعثمانيين والألبان والأوروبيين، انتظرنا تغّير الحكومات في واشنطن وغيرها، وكأننا ربطنا مصائرنا وتحركاتنا بالآخر وانتظار ما يحدث عنده، ليقوم ذاك بالفعل الذي نتمناه، وهو لا يتمناه ولا يقوم به، وإنما يضيف دماراً إلى دمار وخراباً إلى خراب، وهذا الانتظار نعيشه ابتداء من أدنى أمورنا الشخصية وصولاً إلى أخطر مناحي الحياة، فنحن ننتظر أن يحبنا الآخر، وأن يعبر لنا، وأن يقدرنا الآخر، وأن يبادر وأن يشعر بنا الآخر وبحاجتنا ليقوم بتلبيتها، وهكذا تستمر الأمور! ودوماً نعلق إخفاقاتنا وخيباتنا على الآخر! فهو الذي لم يشعر بنا، وهو غير الوفي! وهو الأناني والناكر للجميل، وهو الغادر، أما نحن فما شاء الله كان حولنا وحول ما نقوم به من كسل وركون، فعلى أي مستوى لم تشهد بلداننا العربية والإسلامية ضمناً أي نوع للخروج من السكون، وهذا الخروج من الفردي إلى الجماعي، وهذا لا يعني ما يتناقش به كثيرون، من أن العرب في بدايتهم في القرن السابع الميلادي والثامن فتحوا العالم، فليس المقصود أن تقوم بالفتح والاحتلال والخروج خارج حدودك الجغرافية، وليس المراد القوة التي تتسلط على الآخرين، فكل سلطة خارجية وكل احتلال وكل حركة ظالمة غاشمة، أو مسالمة محبة، هي في طريقها للزوال والنهاية حسب سيرورة الحياة، ووفق نظريات نشوء الأمم، ومهما حاول المحللون أن يتحدثوا عن نهايات الدول والعالم، فهذا الحديث يدور في إطار ولادة الأمم وزوالها، والعرب أنفسهم عندما شكلوا قوة وقاموا بفتح العالم من التيبت إلى إفريقيا والأندلس فعلوا ذلك بدافعي العقيدة والقوة، وفي كل جانب وصلوا إليه بالقوة خرجوا منه سواء بكيناه أم لم نعرف به، بينما في الأماكن التي وصلتها العقيدة فكراً سليماً بالاقتداء والعمل، فإنه تم التأسيس لمجتمعات مزدهرة مع تقادم الزمن وكانت العقيدة من صميم المجتمع وليست وافدة بالقوة، وما يعيش في شرق آسيا يدل دلالة قاطعة، فأندونيسيا وماليزيا وسواهما وصلتها العقيدة بغير الطرق التقليدية، فكان جزءاً من بنيتها، وقد أخلص لذلك د. بشار الجعفري دراسة هي من أهم ما كتب حول الموضوع «أولياء الشرق البعيد».. أعود من هذا الاستطراد في صلب الموضوع إلى فكرة العمل الجاد، فليس المقصود الخروج إلى الآخر وبلدانه، وإنما الخروج من الذات لدعم الذات ودفعها إلى التعملق، ألّا أنتظر تقانة لتأتيني، بل أخلقها وأسرقها، وأعرف شخصيات رحم الله الراحل منهم كان يحب مصطلح سرقة التقانة، وكان يعمل وفق منهج محدد ومدروس لسرقة التقانة، لقناعته أن الآخر لن يعطيك أسرار التقانة، لكن هذه المشروعات الفردية الطموحة باءت بالفشل، لأنها كانت نظرات خبراء علماء فردية، ولم تكن سياسة مؤسسات علمية متكاملة، فلم تصل إلى نتائج ذات قيمة، مع أن بوادرها قد بدأت، وأجهضت قبل أن تكتمل الصورة.
أسوق هذا المثال لأقول: نحن من أجهضنا وليس الآخر، ونحن من تنازل عنها وليس الآخر، هو من تنبه ومنعنا من إتمام ما بدأنا.
العمل يبدأ من الذات، ومن تحصين الفرد والمجتمع، وحين يكون الفرد بخير يصبح المجتمع بتمامه في حالة من الازدهار والنمو، أمامنا الكثير لفعله، ولو نفذنا بعض القضايا بالتدريج لكنا وصلنا إلى نتائج مذهلة، لكننا مارسنا لغة الانتظار، انتظار الفاعل الذي يأتي به الخارج.. واليوم نسمع عن خطوات قادمة من الازدهار ولكنها وللأسف مرتبطة بما سيفعله الآخر لنا أو بنا.!
أربعة عشر قرناً من الانتظار، ومن الغريب أن الجميع يعرفون الطريق، أو يدّعون المعرفة، ولكن أحداً لم يقم بخطوة تجاه الطريق الطويل، ولم يبدأ الخطوة الأولى، وهذا الأحد يجب أن يكون صاحب القرار في أي ميدان، وليس فرداً لا حول له ولا قوة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن