ثقافة وفن

من فضائل الأزمة!

غسان كامل ونّوس :

من فضائل الأزمة، التي لا تكاد تخلو منها، مهما كانت كارثيّة ممتدّة معقّدة، أنها تُخرج باطن الكائن إلى ظاهره؛ فيغدو مكشوفاً مشرَعاً، بقصد أو من دونه، وبوعي أو بلا وعي؛ فلا يكاد يخجل المرء بعقوقه، أو بنكرانه، أو بعورته؛ إن لم يفاخرْ بها، ويغترَّ، أو يفترَّ لها، ويباهي بها أصحاب العورات الأخرى؛ هذا إذا كانت ما تزال تعدّ عورة!
كما أنّك لا تعود مضطرّاً للمجاملة أو التلفيق، أو النفاق؛ فليكن كرهك بيّناً، وتقويمك للآخر معلَناً. ولتُخرِجْ ما جمعت عنه من معلومات، بحكم تقرّبك المديد منه، وعلاقتك الوطيدة به، ولتشهرْها في وجهه، عسى أن تستطيع مواجهة ما كان جمّع هو الآخر، وراكم من نقائص لك وفيك، يلقيها في وجهك، أو أمام آخرين.
وعلى الرغم من قبح المواجهة، وبشاعة الأدوات، وفجاجة المواقف، والمشاهد، فإن الجهد المبذول في هذا الميدان أقلّ من جهدٍ، كان يضاعَف من أجل تزيين المفاسد، وتجميل المنكَرات، وتغطية التشوّهات، وتدوير الزوايا، وتقويم الاعوجاجات التي كانت، مع كلّ ذلك، لا تكاد تخفى، إلا على الغافلين الجاهلين السذّج. وتبقى لديك- في كلّ وقت- متعة الرضا عن النفس في قول ما ترى، والبوح بما تعرف، وإشهار ما تخفّى؛ هذا إذا كنت صادقاً مع نفسك، مدافعاً عنها بالحقّ، من دون ادّعاء وافتراء وتضليل؛ حتّى لو قام آخرون بذلك، وحتّى لو خسرت الرهان، وهزمت في جولة أو أكثر، وتراجعت عن مفصل أو أكثر؛ حتّى لو أن الآخر يستخدم ذكاءه وإمكانيّاته وهشاشة ما لديك، وضحالة ما لدى عناصره أو «أدواته» من وعي وحسّ في تضخيم عيوبك، والمبالغة في أخطائك، وإلصاق بك ما لا يليق من الصفات، وما لا يصحّ من المقولات، وما لا يجوز في أي عرف، أو قانون؛ فالمواجهة لا تسوّغ الضلالات، وإن كانت تستوعِب، ولا تبرّئ، وإن كانت تتفهّمها، ولا تستثني الجرائم من الحساب، وإن كانت تنتظرها، أو تتوقّعها. وأن تفقد ممّا لديك من ممتلكات، ومن تابعيّات، ومحسوبيّات أمر ممكن، أو محتسب، وأن تضطرّ لخطوة أو أكثر نحو اليمين أو اليسار، أو الخلف؛ مناورةً أو مداراة، أو تجنّباً لِما هو أسوأ، واستعداداً وتحضيراً وتزوّداً بما قد يفيد لاحقاً… مسألة تحدث، أو ليست مفاجأة كبيرة.
أمّا أن تخسر خصالك، في سبيل مآلك؛ فهي خسارة، حتّى لو كان فيها خلاص آنيّ، أو بقاء بارتهان، وخسارة مضاعفة، إن لم تُجدِ؛ وكثيراً ما لا تجدي!. أمّا أن تريق ماء وجهك، وتبذل دموعك أو دماءك بخسّة وجبنٍ؛ فتلك الطامّة الكبرى، التي لا فائدة من البقاء بعدها، ولا جدوى من التغنّي بالأمجاد الماضية، ولا ينفع الأجداد ولا الأحفاد، ولا الأولاد!
كلّ شيء في الحرب متوقّع، أو متاح؛ لكنّه ليس مباحاً، ولا مسوّغاً، مهما زُيّن، وعُمّم، وسُوّق… ويبقى المرذول مرذولاً، حتّى في أقسى الظروف، وأشدّ الأزمات!! ولا يتوقّف ذلك على الجبهات التي تشتدّ فيها المعارك؛ بل في المواقع الأخرى، التي تعدّ تغذية أو رديفاً أو خزّاناً لمن يواجه المعتدين بسلاحه مباشرة.
من فضائل الأزمات أنها تقلّل من حدّة الخوف، وتبهت الكثير من الحدود التي كان يحسب حسابها في محاولة التعبير والتفسير والتغيير؛ فيمكن الإقدام أسرع وأبعد، والتقاوي على المواجع، والتعالي على الجراح، والتشجّع على المغامرة والمبادرة بأقلّ وقت وقدر واحتساب..
ومن فضائل الأزمات، أنها تجعل المضطرّ يبحث عن حلول للأزمات، وأساليب للتكيّف مع أحوال طارئة، وظروف غير معتادة، وتجعل الناس يفتّشون عمّا يمكن أن يعوّض عن افتقاد وقصور وغياب، والتعوّد على مزيد من التفهّم والتصبّر والتأسّي.
ومن فضائلها أنها تُكاثف استشعارات الخلاص والأمان، وتضاعف الاهتمام بالموائل والمكامن، وتزيد في قواعد التحصين وعناصر التقوية، وتفتّح منافذ الوعي، وتقوّي الشعور بالمسؤوليّة.
من فضائل الأزمات أنها تعرّي عرّابيها، وفجّارها، وتجّارها، وتُنشر روائح الفاسدين، وتكشف عن زيف أصولهم، وتفضح عفونة الطفيليّين، وطويّة الحاقدين، وعجز المدّعين، وكيد الغادرين… لكنّها أيضاً وعلى الرغم من- بل لعلّه بسبب- أوقاتها الغاصّة، وآفاقها المعكّرة، وفسحاتها الضيّقة، تنصف أصحاب الذمم، الذين لا يساومون عليها، وتضيء جباه أصحاب الكرامات، الذين لا يهينونها، وتسمو بأصحاب المروءات والعطاءات، إلى درجة تخليدهم في الأرض رموزاً، وفي السماء شهداء!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن