قضايا وآراء

الأزمات والنظام العالمي الجديد

| الدكتور قحطان السيوفي

يعيش العالم أزمات سياسية واقتصادية وعسكرية وصحية وغيرها… أدت تداعياتها وبجوانبها العديدة وانعكاساتها، لإيجاد الملامح العامة لنظام عالمي جديد ورصد التحولات الأساسية في العالم، اليوم يظهر أن السياسة الدولية تشهد حالة من الانهيارات والتحولات الهيكلية ترافقها دعوات لحل النظام العالمي الليبرالي الأحادي الذي قادته الولايات المتحدة، واستبداله بآخر متعدد الأقطاب، وليس من المُبكر الاستدلال على الملامح العامة للنظام العالمي الجديد على ضوء سياسة القوة، وخاصة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، ودول فاعلة أخرى مثل روسيا وإيران.

الولايات المتحدة الأميركية تمارس سياستها العدائية تجاه الصين المنافس والعدو الأول وتحشد حلفاءها في أزمة صراع الكباش ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهناك أزمة أوكرانيا التي افتعلها الغرب لحصار روسيا التي لا تخفي تأييدها للصين، وهناك أزمات الشرق الأوسط وفي مقدمها أزمة الاتفاق النووي الإيراني، ناهيك عن أزمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والحرب الإرهابية الكونية على سورية التي تباركها وتدعمها الإدارة الأميركية وتحتل جزءاً من الأراضي السورية.

هذه الأزمات وغيرها إضافة إلى جائحة كورونا التي ستشكل بداية لنظام دولي جديد، وستسهم في إعادة صوغ علاقات جيوسياسية مغايرة للفكرة القائلة: إن الحوكمة الديمقراطية هي أفضل الطرق لمواجهة الأزمات، صارت فكرة خاوية، وهناك قناعة لدحض الاعتقاد بأن القوة العظمى حاضرة في كل ركن من العالم، وبإمكانها السيطرة على النتائج العالمية، وجائحة كورونا تحدت هذا الاعتقاد، بالمقابل الإدارة الفوضوية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تجاه جائحة كوفيد–١٩ تركت انطباعاً عن أن واشنطن غير قادرة على التعامل مع الأزمات.

إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، تحاول استرداد العالم إلى لحظات سابقة كانت «العولمة» و«الديمقراطية» مهيمنة داخل أميركا، مثل ذلك لا يبدو واقعياً مع جائحة كورونا التي أدخلت العالم في أزمة غير مسبوقة، لعلّها الأخطر في التاريخ الحديث؛ فقد أثبتت الجائحة «أن الأوبئة مصدر مروّع للاضطراب والدمار العالمي، وشكل من أشكال الكوارث، وتحوّلت إلى أزمة عالمية، تركت آثارها في النظام الدولي.

يتوقع وزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كسينجر تحولات في النظام العالمي ويقول إن مفهوم الدولة، والنظام العالمي سيمر بتحولاتٍ صعبة، وقد يؤسس ذلك لصراعٍ على الغذاء، أو انتشار للجريمة، أو خوف من المستقبل وغزو للآخر.

من جانب آخر هناك تراجع للعولمة وتوجه معاكس للترابط العالمي يعززه اتجاه الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا التي قامت بعزل حدودها تباعاً لمواجهة كورونا ولمنع حركات الهجرة، وهو ما يشير إلى أن هيكل الحوكمة العالمية المتمركز حول الأمم المتحدة ونظام «بريتون وودز» صار مثار جدل، ويحتاج إلى إصلاح شامل، كما أن تراجع العولمة أدى لتطلع المواطنين إلى الحكومات الوطنية لأجل حمايتهم، وظهور نوع من النمو لحضارة افتراضية بسبب تقلص حركة التنقل للأشخاص، وبزوغ تحالفات ناتجة من أزمة النظام العالمي الجديد سوف يكون متسماً بتراجع للديمقراطية بعد أن أظهرت الديمقراطيات عدم كفاءتها في التعامل مع الأزمات.

النظام العالمي ما بعد الجائحة سوف يؤسس وينشر التفوق الثقافي للشرق على الغرب، وأن الآثار الإيجابية للجائحة سوف تبرز كثيراً من الممارسات الحياتية مثل استبدال مصافحة اليدين بتحية «الناماستي»، وتبني نظام غذائي نباتي.

النظام الدولي يمضي في المحور الجيوإستراتيجي وبدأ يتحول تدريجياً من أوروبا إلى آسيا، وبالتحديد لمنطقة المحيطين الهندي والهادي، حيث تعكف الصين على صياغة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب في ظل تراجع الهيمنة الأميركية وصعود الصين وروسيا.

بدأت الصين بالفعل في تنفيذ إستراتيجية النفوذ الإستراتيجي، وإقامة تحالفات، وإنشاء مؤسسات متعددة الأطراف؛ مثل

منظمة شانغهاي للتعاون، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومجموعة البريكس، وبنك التنمية الجديد؛ وذلك كمنصات انطلاق بديلة من الحوكمة العالمية، ومع تعثر نظام العولمة المكون من اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية، يظهر أمامنا نموذج جديد، يعمل على صهر الدولة السياسية والقومية الثقافية والاقتصاد التجاري في وعاء واحد.

وثمة عاملان يدفعان بتلك التطورات أولهما، تسرب رأس المال الغربي الكبير إلى الشرق بحثاً عن الأيدي العاملة الرخيصة والتسهيلات الضريبية؛ وثانيهما، تدفق اللاجئين هرباً من الشرق والجنوب نحو الغرب.

وفي ظل المخاوف الثقافية والاقتصادية، فإن كلاً من السياستين «الشعبوية اليمينية» و«الشعبوية اليسارية» قد تقدمتا في آن واحد بشكل ملحوظ.

الأعوام المقبلة ستشهد الكثير من التحولات المهمة، وستكون قيادة العالم متعددة الأقطاب، وسيستمر صعود القوى الجديدة أبرزها الصين وروسيا، والمنافسة العالمية ستكون عسكرية واقتصادية وتكنولوجية.

جلسات منتدى دافوس 2021 كشفت عن الثغرات الخطرة في النظام الدولي القائم، وحذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمام المنتدى، أن المأزق الرئيس الذي يعانيه النظام العالمي هو انهيار الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، والمطلوب هو إبداع نظام دولي جديد لانتشال الاقتصاد العالمي المنهار.

الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية والصحية التي يشهدها العالم جعلت كبريات دول العالم تجد نفسَها في حالة عجز كلي عن احتواء الآثار المدمرة للأزمات التي ساهمت بإعادة تشكل نظام عالمي جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن