قضايا وآراء

بوتين يعرض المبارزة بـ«الروليت»

| عبد المنعم علي عيسى

مثلت الطروحات التي احتواها خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحفي الذي بات تقليدياً سنوياً، من النوع الذي يعرض لحالة «الاتحاد» الروسي، وكيف مر عليها العام الفائت، ثم يعرض للتحديات التي تعترض مساره، وصولاً إلى رسم السياسات الكفيلة بمواجهة تلك التحديات، نقول مثلت تلك الطروحات تحدياً للولايات المتحدة الأميركية هو الأكبر من نوعه منذ انفراد هذه الأخيرة بالهيمنة العالمية في العام 1991، بل ربما يصح القول، تبعاً للمدى الذي ذهبت إليه تلك الطروحات، إنه كان الأشد منذ العام 1945 الذي أسس لبداية الحرب الباردة التي خرج الأميركيون منها منتصرين بعيد تفكك حلف وارسو عام 1989، فهي، أي تلك الطروحات، التي يمكن اختصارها بالقول إنها كانت عرضاً روسياً للأميركيين بقبول وضعية «الدولة الإقليمية الكبرى»، والعرض يتضمن أيضا بين ثناياه إمكانية التوافق لاحقا على الحدود التي يجب أن تكون مصالح تلك الدولة مصانة فيها، كانت، تلك الطروحات، من الحدة التي لم يذهب إليها الاتحاد السوفييتي وهو في أوج قوته في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

شهدت الأزمة الروسية مع أوكرانيا تصعيداً غير مسبوق منذ نحو شهر أو يزيد، ظهر ذلك عبر سيل التصريحات الرسمية الصادرة عن مسؤولين غربيين، وعبر وسائل إعلامية غربية جهدت في رسم صورة مفادها أن الروس على وشك «ابتلاع» أوكرانيا، وفي الغضون راجت تقارير تقول إن الرئيسين الروسي والأميركي كانا قد تبادلا «الإنذارات» في سياق القمة الافتراضية التي عقداها مطلع كانون الأول الجاري بتقنية الفيديو، ومن المؤكد أن تلك التقارير كانت تمتلك من المصداقية الكم الكافي لاعتمادها كميزان حرارة يمكن الركون إليه لمعرفة درجات السخونة التي سادت تلك القمة، بدليل ما ذهبت إليه الدبلوماسية الروسية يوم 17 كانون الأول الجاري، عندما نشرت وزارة الخارجية لائحة المطالب بشأن الضمانات الأمنية الروسية التي جاءت بسقوف مرتفعة وعلى نحو غير مسبوق، وما تضمنته يؤكد صحة الاختصار المشار إليه أعلاه لجهة عرض الروس على الأميركيين القبول بوضعية «دولة إقليمية كبرى» بكل ما يحمله ذلك العرض من قسوة قرأها العديد من الساسة الأميركيين على أنها تتعدى حدود هذه الأخيرة لتصل إلى حدود «الإذلال» المتعمد.

من بين المطالب الأمنية أن تقوم الولايات المتحدة بتقليص، أو الحد من، وجودها العسكري في أوروبا ونصف آسيا بما في ذلك الشرق الأوسط واليابان وكوريا الجنوبية، والمؤكد هو أن الطلب السابق هو الأهم من بين نظائره نظراً لكونه، فيما لو حصل، شديد التأثير في المواجهة التي أطلقتها الولايات المتحدة مع الصين قبل نحو عقد ثم تصاعدت بعيد الإعلان عن الشراكة الأمنية الاستراتيجية ما بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا عبر اتفاق «أوكوس» شهر أيلول الماضي، وهذا سيعني بالنسبة للأميركيين ميلاً روسياً نهائياً لا مواربة فيه نحو الخندق الصيني، ولسوف يصعب معه الوصول إلى توافقات عند نقاط تلاق معينة.

قد تكون لائحة المطالب الأخرى كلها من النوع الذي يصعب على الأميركيين قبوله طالما بقيت النزعة في واشنطن تقوم على ضرورة استمرار الهيمنة الأميركية على العالم، ومن المؤكد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان موقناً بأن مطالبه سترفض، لكن الصيغة التي عرضت فيها، تلك المطالب، كانت تهدف بشكل واضح إلى إحداث شرخ كبير في تلك الهيمنة، وشرخ نظير له في «الجسد الغربي» المثلوم قبل أشهر فقط بخنجر «أوكوس»، فالمطالب نشرت علانية، وتلك سابقة لا يصعب فهم مراميها، ناهيك عن أن بوتين قال إن تلك المطالب يجب أن يجري التعامل معها دفعة واحدة، بمعنى إما أن تقبل كاملة أو ترفض كاملة، والقول دون أدنى شك ينزع للظهور بمظهر قوة من النوع الذي يجب أخذه بالحسبان.

في قراءة الاستراتيجية الروسية التي تبرزها لائحة المطالب الأمنية، يمكن القول إن موسكو ترى نظيرتها الأميركية في أعقاب محاولات الأخيرة تسخين الأزمة الأوكرانية، ذاهبة نحو مصارعة روسيا بالوكالة عبر أذرع إقليمية موالية لها، تماماً كما حصل مع جورجيا صيف عام 2008، وما تريده موسكو هو تجنب المصارعة بالوكالة، بل الدخول في صراع مباشر مع الولايات المتحدة، وهذا بالضبط ما يقلق هذي الأخيرة، لأنه ببساطة سيدفع، عبر الآثار التي يخلفها أيا تكن الأشكال التي سيتخذها والمديات التي يمكن أن يصل إليها، إلى التعجيل بالإعلان عن ولادة «قطب صيني» مكتمل المواصفات، وهو يقف على درجة واحدة كند للقطب الأميركي الحالي، في تكرار شبيه بذاك الذي حصل خريف عام 1956 والذي قادت نتائجه إلى أفول شمس إمبراطوريتين هما الفرنسية والبريطانية بعد صدامهما مع قوتين صاعدتين هما الولايات المتحدة أولاً، والاتحاد السوفييتي ثانياً.

كنتيجة، ترى موسكو أن موقفها الرافض في الخضوع لمطالب الغرب والتراصف معه في مواجهة النهوض الصيني هو موقف صائب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تغييره، لأن العكس الذي سيؤدي إلى هزيمة الصين، سيؤدي حتما إلى خنق روسيا جيوسياسياً واقتصادياً بقدر يعمق المشاكل التي عانت منها الأخيرة بعيد انفراط عقد الجمهوريات المحيطة بها العام 1991، وسيدفع إلى تكرار السيناريو الذي عاشه الاتحاد السوفييتي أواخر هذا العام الأخير داخل حدود الاتحاد الروسي هذه المرة، والراجح إذاً أن تبقي موسكو على إستراتيجيتها القائمة على خلق تلاقيات جديدة مع الصين مع العمل على ضم الهند إلى تلك التلاقيات الأمر الذي سيؤدي، في حال نجحت اللواصق الروسية بذلك، إلى تغيير موازين القوى العالمية القائمة، ومنه إلى فرض لعبة «الروليت» الروسية على الأميركيين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن