اقتصاد

التقانـة والإتقان وموروثنا الشعـبي!

| د. سعـد بساطة

أسلافنا الذين سبقونا لم يصنعـوا أمثالهم الشعبية من فراغ، ولكنهم صاغوها عن خبرة تراكمت، وعن تجربة في الحياة تعددت، حتى صار كل واحد من تلك الأمثال، كأنه حكمة مكتملة هبطت من السماء!

من بين الأمثال التي نرددها في حياتنا، بشكل مستمر، وربما من دون أن نعي معناها جيداً، ذلك المثل الذي ينصحنا بأن «نعطي الخبز لخبازه… حتى ولو أكل نصفه!».

والخبز عند أشقائنا المصريين، اسمه رغيف «العيش»، والمائدة التي تخلو منـه، أياً كانت أنواع الطعام وصنوفه عليها، ليست مائدة!

والسؤال الذي يشغلني: لماذا كانت هذه النصيحة، من الذين سبقونا، ولماذا جاءت صيغتها على هذا النحو ؟!

علينا أن نلاحظ هنا شيئين أساسيين؛ أولهما أن (الخباز) المقصود في هذا المثل الشائع، ليس أي خباز والسلام!…

المقصود: هو الصانع الذي يجيد صناعـته، وبمعنى أدق يتقنها، أياً كان نوع أو اسم هذه الصناعة…

لعلنا ننتبه إلى أن الهدف من وراء هذا المثل الشعبي، ليس صناعة الخبز فقط في حدودها، ولكن الهدف هو أي صناعة أخرى قائمة بيننا في حياتنا!

الخباز يعـني بالمثل الشعبي الشائع رمزاً لمعنى أكبر وأشمل، وليس الخباز فيه إلا مدخلاً إلى قضية أعم، تتصل بمستوى الأداء العام في حياتنا!

الهدف، إذا ما حلّقنا بعيداً عن المثل في حدوده، هو أن نذهب، إلى الشخص الذي يتقن ما يفعله، أياً كان ما يفعله، لا إلى أحد سواه.

وأما الشيء الثاني الذي علينا أن نلاحظه، فهو أن واضع هذا المثل العجيب، لم يجد أي عيب في أن يأكل الخباز نصف العيش الذي يخبزه، بشرط واحد، بل شرط وحيد، هو أن يتقن صناعـته!

نحن الآن في عـالم شرس التنافسية؛ ولعـل ما يميـّز سلعـة (أو خدمة ما) عـن شبيهاتها من المنافسات عـدة أمور أولها الجودة (والسعـر: حيث المنافسة ببلادنا سعـرية عـلى الأغلب).

صارت عـبارة «رخص اليد العـاملة» تعـبيراً من الماضي؛ نسيناه في نهايات القرن الماضي؛ وتم نبذه بالكامل في الربع التالي من الألفية الثالثة؛ نبحث اليوم عـن عـامل ماهر؛ قد يتقن لغـة أجنبية؛ ويفهم مبادئ الكمبيوتر؛ ويقرأ كتالوج الآلـة. أي إنّ التقانة أضحت جزءاً من الصناعـة؛ لا مجرد مكـمـّل ترفي لها!

القضية التي لا نملّ من الإشارة إليها هي الإتقان، كأساس لا يمكن لأي عمل مكتمل أن يقوم على سواه، وسوف يكون علينا هنا كذلك، أن نلاحظ شيئاً بسيطاً جداً، يفصل بين العمل المتقن، وغير المتقن، هو أن الذي أدى في الحالة الثانية لو مضى في أدائه خطوة واحدة في اتجاه الإتقان لتساوى مع زميله في الحالة الأولى… خطوة واحدة من العمل بضمير لا غير… بل سيدهشك أن تكتشف أن الفترة الزمنية التي يستغرقها العمل ذاته في الحالتين واحدة، أو تكاد تكون واحدة، ولكن الفارق المهم، بل الأهم، أن أحداً منا قد أتقن ما يعمل بجد، بحيث يخرج من بين يديه على ما يجب أن يكون عليه فعلاً، من دون نقصان، وأن أحداً آخر، منا أيضاً، قد فرغ من عمله سريعاً، ومن دون أن يعبأ بمدى الجودة المفترضة فيه!…

لم تقتحم الصين مؤخراً عـالم الأعـمال؛ وأضحت قاب سنوات من التربـّع عـلى عـرض أهم اقتصاديات العـالم؛ سوى برفعـة مستوى سلعـها (من الشعـبية سهلة العـطب) إلى منتجات تتميـّز بالجودة والمتانة!

وليس أصدق من المثل الشعـبي السوري الذي يصف العمل من هذا النوع الأخير: ((بأن صاحبه قد قام به بقفا يده))!

ومما يؤسف له حقاً، أنك إذا قارنت بين عمل عام، أو حتى خاص، يؤديه كثيرون منا في بلادنا، وبين عمل آخر مماثل، يؤديه أصحابه في بلاد الغرب بوجه عام، سيؤلمك أن تتبين بسهولة، أن الثاني أكثر إتقاناً، بما لا يدع مساحة ذات قيمة لأي مقارنة لمصلحتنا.

فلا يليق بنا أن يكون هذا المثل الشعبي في موروثنا، وأن يكون الحديث النبوي «إذا عـمل أحدكم عـملاً… فليتقنـه».

ثم لا يخلو عملنا من شيء، في أغلبه، كما يخلو من الإتقان… فعلاً لا يليق!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن