الأولى

الليبرالية والعالم الجديد!

| بقلم: أ. د. بثينة شعبان

أتفق مع الذي قال إن الحرب الدائرة في أوكرانيا ستشكل هامشاً صغيراً في تاريخ هذه الحقبة والتي سيكون عنوانها الإطاحة بالدولار الذي شكل أساساً للهيمنة الغربية على العالم خلال السبعين سنة الماضية لأن الانتقال من التعامل الحصري بالدولار إلى التعامل بعملات دول أخرى في تبادلاتها التجارية سيكون كفيلاً بتقويض الهيمنة الغربية على العالم والتي اتسمت بنهب ثروات الشعوب بطرائق مختلفة وإفقارها مع الادعاء بالحرص على الحرية وحقوق الإنسان. ذلك هو السبب الأساس الذي يدق ناقوس الخطر في آذان الغرب ويدفع ربيبه كيان الاحتلال إلى التوجس من التعاون الروسي – الإيراني والروسي – الصيني ومجموعة دول البريكس وشنغهاي.

لقد فتح الغرب الاستعماري من خلال إصراره على خوض الحرب بالوكالة في أوكرانيا ضد روسيا، فتح على نفسه صندوق العجائب لأن التوقيت صادف انكشاف حقيقة الحرب الأميركية على أفغانستان والعراق وليبيا وسورية واليمن، وحقيقة النفاق الغربي بعد أن كشفت الحرب على سورية حقيقة دعم الغرب للإرهاب والإرهابيين وتسويق كل أنواع الأكاذيب عمّا يدور على أرض الواقع وبعد أن برهن «الإعلام الغربي الموجّه» أنه لا يمتلك شيئاً من الحرية بل هو أداة حرب تشنها دوائر المخابرات الغربية ضد الشعوب والأنظمة المستهدفة، وأن ادعاءات الغرب بالحرص على حقوق الإنسان هي مجرد سلعة يسوّق من خلالها عنصرية كامنة في كل تعاملاته ومؤسساته ضد الشعوب المستضعفة فينهب مواردها لمصلحة القائمين على صناعات السلاح الغربية والعاملين دائماً وأبداً على إشعال الفتن والحروب لتسويق منتجاتهم من السلاح غير آبهين بحياة البشر أو مصير الدول والشعوب.

في هذا التوقيت وفي هذا المناخ المفعم بتطلعات الشعوب الحرة للتخلص من «الاستثنائية العنصرية الغربية» وإرساء أسس جديدة لعلاقات احترام متكافئة بين الدول يتحفنا فرانسيز فوكوياما بمقاله الأخير بعنوان «بلدهم الخاص بهم: الليبرالية تحتاج إلى الأمة» أيار/حزيران 2022، حيث يتحدث عن التجاذبات بين أتباع الليبرالية وعشاق الاستقلال الوطني وكأن الليبرالية هي أم وأب البشرية وأنظمة الحكم التي شهدتها الدول على هذه المعمورة متجاهلاً أن الحضارات الإنسانية العريقة والغارقة في القدم كالحضارة العربية والصينية والمصرية والفارسية واليونانية وحضارة الشعوب الأصلية في الأميركيتين وكندا وأستراليا والتي دمرها المستوطنون الغربيون، هي حضارات عرفت التعايش بين المذاهب والأديان والأجناس والأعراق قبل أن يحكم المستوطنون الغربيون على سكان هذا الكوكب بأنّهم أقلّ شاناً من الغزاة والمحتلين والقتلة وأن لون بشرة وعيون الإنسان الغربي هي الأعلى بين أصناف البشر وأن امتلاك السلاح ونهب الثروات والمقدّرات هي الأدوات المقبولة لاستمرار الاحتلال والاستعمار والاستيطان.

يبدأ فوكوياما جدله بالقول: «الليبرالية في خطر وأن أسس المجتمعات الليبرالية هي قبول الاختلاف والاحترام للحقوق الفردية وحكم القانون وأن هذه الأسس تواجه تهديداً في عالم يعاني من انحسار الديمقراطية» ويدخل بعد ذلك في جدل عقيم بين «الليبرالية كمبدأ عالمي وبين الدعوة إلى تعزيز الهوية الوطنية». ليس صحيحاً أن النظم الليبرالية موجودة منذ قرون وليس صحيحاً أن ميزة الليبرالية الأساسية هي قبول الاختلاف في مجتمعات متنوعة. فمنطقتنا العربية على سبيل المثال وبلاد الشام بشكل خاص، لم تكن ليبرالية يوماً ولكنها تمتعت خلال عشرات آلاف السنين بوجود أقوام من أعراق وأديان ومذاهب وألوان وأصول مختلفة وأنتجت هذه الأقوام علوماً وحضارات شكلت منارات للغرب الذي بنى نهضته على أساس إنتاج فكر وفلسفة واختراعات هذه الحضارات.

نقطة قلق فوكوياما الأساسية هي الصراع بين الليبرالية والهوية الوطنية ولذلك هو ينصح الليبراليين ألا يتخلوا عن فكرة الدولة أو «الأمة» «Nation» لأنه لا تعارض بين «عالمية الليبرالية وعالم من دول» ويضيف: إن الهوية الوطنية يمكن صياغتها لتعكس «طموحات ليبرالية ولخلق إحساس بالهدف والمجموعة لدى جمهور عريض»، ويُفهم من هذا الطرح وكل الطروحات في جدل فوكوياما وكأن الليبرالية هي سمة الكون وهي الصيغة العالمية التي يجب أن تسود بين البشر. واقع الأمر هو أن الدول الغربية قد عملت جاهدة ومنذ الحرب العالمية الثانية وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي على الترويج للديمقراطية الليبرالية وكأنها هي الديمقراطية الوحيدة في العالم وشنت حروباً مختلفة على أي نظام لا يقبل أن يكون صورة عن النظام الليبرالي الغربي مع أن الأنظمة الغربية كلها أصبحت تحكمها المخابرات السرية المدعومة بقوانين «مكافحة الإرهاب» والتي تدعى رمزياً «بالحكومات العميقة»، وفقد الإنسان هناك العديد من حقوقه وأصبح ضحية إعلام مضلل يخدم مصالح فئة 1 بالمئة من السكان التي تملك 90 بالمئة من الثروة، أي إن الليبرالية ادعت لنفسها أنها الصيغة الوحيدة للعيش المشترك، وحرية حقوق الإنسان، وأن كل من يختلف معها في الشكل أو الأسلوب أو الهدف لا يمكن له أن يدعي الديمقراطية أو احترام التنوع والعيش المشترك.

لقد فات فوكوياما في حديثه عن الليبرالية والهوية الوطنية أن ليبرالية الغرب هي التي استهدفت الهوية الوطنية في بلدان متعددة من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق وليبيا وفلسطين وسورية واليمن وبلدان أميركا اللاتينية والجنوبية لأن المشكلة الجوهرية في هذه الإيديولوجية أنها ترفض أي شكل من الوجود لا يطابق شكلها، وتدّعي التعددية ولا تتقبل أي اختلاف عنها.

إن مسيرة التاريخ وخاصة في العقدين الأخيرين برهنت بما لا يقبل الشك أن الشعوب تمتلك ثقافات وحضارات وأهدافاً مختلفة وأن كل شعب مؤهل أن يختار نظامه السياسي وفق موروثه الثقافي والإنساني ووفق الأهداف التي تبتغيها كل مجموعة من البشر لنفسها. فها هي الديمقراطية في الصين تختلف عن الديمقراطية في الهند أو الباكستان أو إيران أو البرازيل وكل هذه الديمقراطيات تختلف تماماً عن الديمقراطية الليبرالية التي تعتبر الغرب نفسه صاحب الملكية الفكرية الوحيد لها والعامل على تسويقها والترويج لها لدى كل الشعوب وفي كل البلدان.

إنّ الخطر الذي نواجهه اليوم بعد أن صممت دول كثيرة في العالم على بناء الأنظمة السياسية التي تعكس هويتها، وهذا هو منشأ الصراع الأساسي بين الغرب والشرق، الخطر الذي نواجهه اليوم هو أن الليبرالية الغربية قد توجهت بعد بوادر فشلها العسكري إلى اختراق المجتمعات مخابراتياً وإعلامياً ونشر أفكارها المسمومة لتقويض .

الأسس المحمودة التي بنيت على أساسها مجتمعات ودول وحضارات وثقافات وبرهنت على أنها تخدم من يعيش بكنفها بأفضل وأرقى السبل. فقد بدأت الليبرالية الغربية بتقويض مفهوم الأسرة والعائلة والالتزام وهي مفاهيم دعت إليها الديانات السماوية وبرهنت على جدواها على مرّ عشرات القرون. كما بدأت الليبرالية الغربية بالالتفاف على المفاهيم من خلال عدم المواجهة بل الاختباء وراء حقوق الإنسان أو الحقوق الشخصية البحتة بعيداً عن الأسرة أو الأخلاق أو الالتزام المجتمعي والخلق، ولذلك فإن المعركة التي نخوضها اليوم ليست عسكرية ولا اقتصادية وحسب ولكنها معركة اجتماعية وأخلاقية تعني مستقبل أبنائنا وأحفادنا وقد تكون مواجهتها الفكرية والمبدئية هي الأولوية الأولى في هذه المرحلة التي نشهد فيها ولادة عالم جديد مع صراع مستميت من منظري الليبرالية من أمثال فوكوياما لإنقاذها من الخطر المحدق بها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن