ثقافة وفن

بعض الشكوى!!

| غسان كامل ونوس 

الشكوى سلوك معروف ومألوف، يمارسه الكائن الحيّ حين يحسّ بظلم من ظروف طبيعيّة، واصطناعيّة، أو كائنات أخرى قريبة وبعيدة؛ آملاً ممّن يستمع إلى شكواه، أو ترفع إليه، أن يسعى إلى إزالة الأسباب التي أدت إلى الإحساس بضرورتها، وإعادة الأمور إلى نصابها، أو التخفيف من حدّتها وهيمنتها. من دون أن نغفل ما تتضمّنه في مفهومها من إحساس بالضعف والعجز عن القيام بما يمكن عمليّاً، أو القنوط من جدواها، وفيها قدر من القعود عن السعي إلى تغيير ما كان سبيلاً إلى خروجها، والاستسلام لنتائجها، مع الطلب من الآخرين لسلطتهم أو نفوذهم أو إمكانيّاتهم المشروعة وغير المشروعة، التدخّل وتيسير الأمور. وما يؤكّد هذا المعنى، ما يتردّد على الألسن: «الشكوى لغير اللـه مذلّة!».
ولا تتوقّف الشكوى على أحد شاكيأً أو مشتكى منه؛ فجميعنا يشتكي، في أوقات وحالات غير محدودة؛ كما يُشتكى منّا بنسب مختلفة، ومن أقرب الأقربين، ربّما! كما لا تتوقّف عند حدّ، وبحقّ أو من دونه.
ومن الطبيعيّ أن تنقل شكواك إلى من تعرف أنه يعرف ما تعاني، أو يتفهّم ما تلاقي، ويقدّر الأحوال، ولا تحتاج معه إلى كثير من الشرح والتعليل، وقد لا ينشغل، بقدر ما يهتمّ من لا تعرف، ويسعى إلى حل يرضيك.
ولا شكّ أن في كثير من الشكوى هدراً للطاقات والأوقات والمزايا والقيم والعواطف، وفيها ما يتطلّب صرفيّات، وممارسات بديلة، وانتظاراً وتسويفات وخيبات. وليست الشكوى إلى النفس أقلّ خسائر أو تبعات؛ ففيها إحباط، وانعدام ثقة بالآخرين، وشعور بالهزيمة والفشل..
كما قد تكون الشكوى من النفس الأمّارة بالشهوات والدنايا والرذائل؛ كما قد تكون مغامِرة أو طموحاً، أو داعية إلى قبض ما يشبه الريح، أو الحصول على لبن العصفور.
ومن الطبيعيّ أن تزداد الشكوى في الظروف غير العاديّة، وأوقات الأزمات التي تزداد فيها الأحداث المأساويّة، والوقائع الكارثيّة، ويزداد الفقد في الأنفس والأموال والثمرات، وتتفاقم الشرور بمختلف مظاهرها ومنعكساتها، والفساد بأشكاله وأنواعه، وتظهر حالات منه جديدة، تفرضها، أو تتيحها الأحوال الطارئة والمتبدّلة، التي يجري استغلالها بمختلف العناصر والوسائل والأساليب. وتتضاعف الحاجات الملحّة والمتطلّبات العصيّة، وتشحّ الموارد، وتتعكّر الآفاق، وتدخل في «السوق» أشياء كثيرة وعزيزة، لم تكن لتباع أو تُشتَرى في ظروف عاديّة. وقد تتحوّل الشكوى إلى بضاعة أو حرفة للتكسّب، وفي هذا خطر، وقد يتحوّل المشتَكى منه إلى شاكٍ؛ فتضيع قضايا الشكاوى، وأسسها، وأسبابها، ويُشوَّش المشهد، ويُشوّه. وقد يكون هذا مقصوداً ومطلوباً ومأجوراً..
لكن الأخطر أن يظهر بعض الشكوى ممّن لا يزالون على العهد، صادقين مع أنفسهم والقوانين والأخلاق، مع تجاهل ذلك أو التغافل عنه، أو للتخفيف عن معناه وازدرائه، وعدّه نشازاً ومعروفاً في غير وقته وأهله.
وإذا ما كان بعض الشكوى هذا يحدث في الأوقات العاديّة ممّن اعتادوا السلوك غير المنضبط، أو اتّباع الأساليب الشيطانيّة في الحصول على ما يريدون؛ لكنّه كان يبقى مستوراً، أو غير معمم؛ لأن صاحبه يخجل من إعلانه؛ فسيلاقي الصدّ والنفور لعدم منطقيّته وجدواه. لكنّه في مثل هذه الظروف التي نعيش، وحين تكون نسبة (سيادة) الغلط، وإشاعة الفوضى كبيرة، لا يتورّع عديدون عن إشهار حرابهم في وجوه الأوفياء الأتقياء الصالحين، وليس من العاقّين الشاذّين الانتهازيّين؛ بل من أناس عاديّين وبسطاء، ومن دون خلفيّات مشبوهة، وغايات قاتمة!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن