ثقافة وفن

ربع قرن على رحيل مطرب الرجولة … فهد بلان.. السفير الأول للأغنية السورية ورائد الأغنية الشعبية

| وائل العدس

تصادف هذه الأيام الذكرى الخامسة والعشرون لرحيل الصوت الرجولي الذي استطاع بصوته القوي الصافي وأدائه الفني نقل تراث وبيئة بلاده إلى العالم وجعل الأغنية السورية مألوفة لدى المستمع العربي.

من منا لم يسمع «يا بنات المكلا» و«جس الطبيب» و«تحت التفاحة» و«يوم على يوم»؟ ‏لا شك أنه الفنان الكبير الراحل فهد بلان الذي صدحت حنجرته بتلك الأغنيات التي خالطت الدم والروح وألهبت المشاعر الوطنية والعاطفية.

خزينته الغنائية تضم نحو ألف أغنية حملت تواقيع كبار الملحنين العرب، وحصل على وسام الفنون من الدرجة الأولى في سورية، وعلى وسام الاستحقاق للفنون في كل من ليبيا والمغرب.

شكّل خلال مسيرة حياته ظاهرة فنية من الصعب أن تتكرر واستطاع أن يحقق مكانة في خريطة الغناء العربي، فكان السفير الأول للأغنية السورية ورائد الأغنية الشعبية التي حمل لواءها بإصرار ونقل معالم جمالها إلى أنحاء العالم.

طموح كبير

ولد بلان عام 1933 في قرية الكفر، والده حمود بن أحمد بلان الذي عمل في بداياته في فلاحة الأرض قبل أن يصبح دركياً، وهو يملك صوتاً قوياً وجميلاً، ويجيد العزف على آلة الربابة، حيث اكتسب فهد من أبيه الميل إلى الموسيقا والغناء، عمل في طفولته في أرض أبيه، وكان يسلي نفسه أثناء عمله في غناء الموروث من العتابا والميجانا والشروقي، وأغلب الذين كانوا يعملون معه، كانوا يتوقفون عن العمل ليستمعوا إلى صوته، وكان الشجن هو طابع غنائه الذي يعكس معاناته، وهو مازال طفلاً لم يشتد عوده ولم يزد عمره على عشر سنوات.

كانت طموحاته أكبر من أن تتسع لأحلامه، وآماله في أن يصبح فناناً مرموقاً، وازدادت رسوخاً وقوة في نفسه على الرغم مما حققه من بدايات ناجحة في الغناء في الحفلات والمناسبات الاجتماعية.

منذ أواخر الخمسينيات بدأت حياته الفنية عندما قدم إلى دمشق من السويداء، مكتسباً منها الصوت الرجولي المستمد من الحجارة الصلبة الزرقاء، وعذوبة صوته من عذوبة النسائم العليلة، مشاركاً في الأعراس والمناسبات الاجتماعية يغني الفلكلور الجبلي.

امتحان صعب

في عام 1957 تقدم إلى امتحان القبول كمردد في جوقة الإذاعة السورية، ولم يكن الامتحان سهلاً فقد كان عليه أن يمثل أمام قطبين من أقطاب الموسيقا في سورية وهما يحيى السعودي ورياض البندك، فغنى أمام اللجنة أغنيات لفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب، ولكنه لم ينجح على الرغم من إتقانه لأغانيهما لسببين، الأول خوفه وارتباكه أمام اللجنة والثاني اختياره لأغنيات ينشز بها المطرب المبتدئ، وتساءل مع نفسه: لماذا لا أغني شيئاً من تراث بلادي؟ وارتفع صوته أمام اللجنة وصدح بأغنية: هين ضرب السيف يابا.. هيـن عليّا، وأنا أشوفك قدام عيني.. زعلان عليّا.

ولم يكد ينتهي من غناء مطلع الأغنية حتى وجد علامات الإعجاب واضحة على اللجنة.

بعد ذلك رُشح ليكون نجم الغناء في مسرحية «المنحوس السادس عشر» فقد أراد أن ينتقل من الغناء خلف ميكرفون الإذاعة إلى الغناء من فوق خشبة المسرح وأمام الجمهور.

اللون البدوي

في أواخر عام 1957 تعرف على الملحن سهيل عرفة، وكان أول عمل مشترك لهما أغنية «يا بطل الأحرار» التي نظمها راشد الشيخ، وفي مطلع عام 1958 غنى ابتهاجاً بقيام الوحدة بين سورية ومصر، ثم غنى بعدها في الشهر السابع من عام 1959 أغنية «مشغول بحبك» التي نظمها مسلم برازي ولحنها راشد الشيخ، وفي التاسع من كانون الأول عام 1959 غنى من كلمات حسن البحيري وألحان عبد الفتاح سكر أغنية «لعينيك يا حرية».

وبعد أن التقى الفنان شاكر بريخان في إذاعة «حلب» قدّما مع المطربة الراحلة فضيلة مقلة المعروفة باسم «سحر» أغنية «آه يا قليبي».

صبغت أغانيه منذ حينها باللون البدوي، وتجسد اللون الجميل معه بالأداء الأجمل، إلى أن التقى فنياً عبد الفتاح سكر الذي قدّم له ألحاناً كثيرة وجميلة، خاصة أغنيتهما الأولى التي تعتبر لوحة غنائية شعبية «لركب حدك يالموتور»، وتوالت الأغنيات بعدها «واشرح لها» و«ألفين سلام» و«شفتا أنا شفتا» وغيرها.

في بيروت

انتقل إلى بيروت حيث ظهر في برنامج «ألوان» الذي كان يعده ويقدّمه الفنان نجيب حنكش الذي أطلق عليه لقب مطرب الرجولة، في حينها قدّم له سهيل عرفة لحناً جسد لونه الرجولي في أغنية «بالأمس كانت تهوى وجودي»، وفي بيروت كانت شهرته كبيرة جداً، وقدّم فيها أغاني عديدة ومثّل أفلاماً سينمائية تصل إلى أكثر من ثلاثة عشر فيلماً مشاركاً فيها البطولة مع نخبة من نجوم السينما العربية من لبنان ومصر ولاسيما الفنانة القديرة مريم فخر الدين التي كان من نتاج فيلمهما «فرسان الغرام» أن وقعا في الغرام والزواج، وكذلك اشترك مع صباح في فيلم «عقد اللولو» و«أين حبي» و«حبيبة الكل»، والمطربة نجاح سلام في فيلم «يا سلام على الحب».

إلى مصر

انتقل إلى مصر فأقام فيها ما يزيد على تسع سنوات في القاهرة استطاع أن يسيطر على الساحة الغنائية سواء بألحانه السورية أم بالألحان التي قدّمها له الملحنون اللبنانيون والمصريون.

نجاح الأغاني الشعبية التي قدمها له عبد الفتاح سكر وسهيل عرفة وشاكر بريخان وفيلمون وهبة الذي قدم له «يا خيال يا رايح على الجولان» و«عباية مقصبة» وملحم بركات «ما اشتقتيش» و«قوم تعلل يا مدلل» وعفيف رضوان «أنا صياد شارد بالبراري» وحسن غندور موشح «دع الملامة»، دفع بالعديد من الملحنين المصريين أن يقدموا له ألحانهم، فلحن له بليغ حمدي «بحري الهوى» و«من غير ميعاد» و«على كفي» وخالد الأمير «ركبنا على الحصان» و«دوري دوري» و«أهلانين وسهلانين». ، وكذلك سيد مكاوي قدم له «يابو الطاقية» وموشح «مال واحتجب»، وهذا الموشح من كلمات أحمد شوقي.

ولكن كان أكثر الألحان شهرة ما قدّمه فريد الأطرش بأغنيته «ما أقدرش على كده» وأغنية «وشوي شوي يا بنية».

الغناء الوطني

أواخر السبعينيات عاد بلان إلى سورية بشكل نهائي وأصبح يقضي جل وقته في السويداء حيث ابتاع لنفسه أرضاً زراعية، وعمل على تأسيس فرع لنقابة الفنانين في المنطقة الجنوبية، وبدأ المرحلة الثالثة والأخيرة من مسيرته الفنية حين التقى الشاعر والموسيقي سعدو الذيب الذي قدّم له واحدة من أجمل أغانيه وهي «يوماً على يوم» ثم أغنيتي «سلامين» و«غالي علينا يا جبل».

تميز بلان بأدائه للغناء الوطني، فلم تخل مناسبة وطنية إلا وغنى لها، فقد غنى للوطن العربي أغنية «وطني امتد وصار كبير» و«تهنا يا عربي»، وغنى لسورية من كلمات علي عقلة عرسان وألحان أمين الخياط «تعيشي يا بلدي» و«يارب تبارك سورية» للملحن إيلي شويري، وغنى لثورة الثامن من آذار المجيدة أغنية من ألحان عبد الفتاح سكر «ثورة تعيد الأرض» و«لو أعطيت الثورة» للملحن رياض البندك، وكان للحركة التصحيحية نصيبها إذ غنى لها ثلة من الأغاني منها «حيو الشآم» و«سيف الحق» و«سورية تشارين الغار» و«من يوم ولدنا يابلدنا» و«فارس التصحيح» و«صباح الخير يا بلدنا».

كما غنى للقدس وللشعب الفلسطيني من ألحان محمود الشريف «المسجد الأقصى» و«القدس الشريف».

جلطة دماغية

مع قدوم سنة 1997 أصيب الفنان الكبير بنزيف في الدماغ ونقل إلى المستشفى وعندما عاد أخذ بأسلوبه الريفي البسيط يخفف من خوف الأقرباء والمعجبين ورجال الصحافة ويصف النزيف بالخثرة البسيطة، ولكن الأعراض تفاقمت وأدت إلى جلطة دماغية حادة لم تمهله حيث توفي في 26 آب من السنة نفسها عن عمر لم يتجاوز 64 عاماً.

آراء وشهادات

أم كلثوم: «يعد مطرب الرجولة الراحل فهد بلان لوناً جديداً في الغناء العربي».

محمد الموجي: «صوت فهد بلان يمتاز بالقوة والجمال».

سيد مكاوي: «أنت تعطي فهد اللحن شجرة عارية فتسمع منه اللحن مزهواً بأجمل الأثمار».

سعدو الذيب: «صوت فهد بلان من الأصوات النادرة في الوطن العربي إذ يتجاوز «الأوكتافين» في المفهوم الموسيقي وهذا ما يسهّل عمل أي ملحن، يكون الملحن في هذه الحالة منطلقاً في خياله الموسيقي لا تحده عدة مقامات قليلة يعمل عليها كأصوات مميزة من المطربين وهذا ما يأسر الفنانين الذين عملوا مع هذا الصوت الجبار إذ لا يعجبهم الانتقال إلى صوتٍ آخر والمغامرة مع فنان آخر».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن