قضايا وآراء

فوضوية السياسة الخارجية الأميركية في عهد بايدن

| محمد نادر العمري

لم تعد الحالة الصحية وحدها للرئيس الأميركي جو بايدن هي محل شك وانتقاد بعد سلسلة زلات اللسان المتتالية وعدم الاتزان الجسدي والفكري الواضحين خلال الآونة الأخيرة، بل باتت سياساته عموماً والخارجية منها بشكل خاص، في دائرة النقد للنخب الأميركية ومراكز الدراسات البحثية الكبرى، وهذا النقد يتزامن مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي المزمع عقدها في تشرين الثاني وسط تراجع شعبية الرئيس بايدن لأدنى مستوى لها وفق استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة «Gallup» نهاية شهر آب الماضي، إذ أعلن 38 بالمئة من الذين تم استطلاع آرائهم عن موافقتهم على عمل بايدن في منصب رئيس الدولة، وعارض عمل بايدن في المنصب المذكور 59 بالمئة من المشاركين في الاستطلاع، وهو ما أثر بشكل سلبي على شعبية الديمقراطيين عموماً، نتيجة الأخطاء المتراكمة التي ارتكبها بايدن بعد وصوله إلى سدة الحكم، بذريعة إعادة نصاب السياسة الخارجية لمسارها الصحيح وتخليص أميركا من تداعيات «الفوضوية الشعبية للقيادة» التي خلفها دونالد ترامب.

إلا أن كل المؤشرات واستطلاعات الرأي فضلاً عن تقييمات النخب الفكرية والأكاديمية الأميركية أكدت أن فترة حكم بايدن والتي دخلت شهرها التاسع عشر، باتت أكثر فوضوية وأقل تأثيراً على صعيد السياسة الخارجية نتيجة عوامل ذاتية داخلية وموضوعية دولية، ويتجلى ذلك في أبرز صوره بعدم ترجمة برنامجه الانتخابي على صعيد السياسية خارجية، وفيما يتصل بالمجالات التالية:

أولاً- منذ نهاية الحرب الباردة وفي فترات طويلة من مرحلة الحرب العالمية الثانية لم تواجه الولايات المتحدة الأميركية، مناخاً عالمياً يسوده التوتر والفوضى، والذي ساهمت أميركا في تكريسه من دون أن تتمكن من حسم هذا التوتر أو توظيفه بشكل كامل لمصلحتها ضد خصومها ما يحقق مكاسب جيواستراتيجية لها، عبر افتعال الأزمات ومن ثم الإدارة بهذه الأزمات، والدليل على ذلك ما يحصل اليوم في أوكرانيا، حيث أصبحت هذه الحرب عبئاً اقتصادياً حالياً على أميركا وحلفائها الأوروبيين، وفي حال استمرارها بهذا الشكل ستكون لها تداعيات أمنية واجتماعية لن تكون مقتصرة فقط على انتشار التطرف وارتفاع معدلات التضخم وتراجع منسوب الرفاهية، بل ستؤدي في نهاية المطاف إلى تسارع وتيرة صعود اليمين المتطرف بشكل ملحوظ.

ثانياً- لم يستطع الرئيس الأميركي إدارة التفاوض مع إيران للوصول لاتفاق جديد فيما يخص ملفها النووي ما يحقق المطالب الأميركية بشكل خاص وبما يرضي جزءاً من التيارات والنخب الأميركية من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري الرافضين لصيغة الاتفاق النووي السابق، بل باتت اليوم أميركا على عتبة العودة لهذا الاتفاق ما يحقق المصالح الإيرانية الأكثر منها من المطالب الأميركية في ميزان الربح والخسارة، ولاسيما تقديم ضمانات أميركية بعدم الإخلال بهذا الاتفاق مجدداً ورفع كامل العقوبات المفروضة على إيران، كما أن السلوك التصعيدي الأميركي في الجغرافيا السورية مؤخراً، ووضع القوات الأميركية بحالة التأهب، هي مجرد بالونات «إعلامية» تطمينية هدفها إخفاض الصوت المتعالي الرافض لهذا الاتفاق الذي تعتبره إسرائيل نصراً لإيران ولمحور المقاومة.

ثالثاً- المسألة التايوانية ومحاولة احتواء الصين، والتي تعتبر من أولويات الإدارة الحالية التي تعد امتداداً لإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الساعية لترجمة إستراتيجية عام 2010 فيما يتعلق بتعزيز الوجود الأميركي في منطقة جنوب شرق آسيا واحتواء الصين ووضع العراقيل أمام نموها الاقتصادي، لذلك فإن محاولات الرئيس بايدن منذ تولي إدارة الحكم توقيع اتفاق «أوكوس» الأمني مع بريطانيا وأستراليا، وضم دول جديدة لها في منطقة شرق آسيا وزيادة المطالب الأميركية للصين باحترام حقوق الإنسان وتعزيز الحريات وتسارع المسؤولين الأميركيين لزيارة تايوان، هدفها زعزعة الاستقرار في هذه المنطقة على غرار النموذج الأوكراني، بمعنى افتعال أزمة تهدد الأمن القومي الصيني ودفع بكين للقيام بعمل عسكري وإدخال الدول الحليفة لواشنطن في هذا الصراع ما يستنزف الصين ويعزز الوجود الأميركي، غير أن ارتدادات هذا السلوك وإن حققت مكاسب مؤقتة إلا أنها على الصعيد الإستراتيجي لن تكون لمصلحة أميركا، وهو ما حذر منه ثعلب السياسة الخارجية الأميركية هنري كسنجر برؤيته المتضمنة أن تصاعد عداء أميركا للصين سيدفع الأخيرة نحو تعزيز تحالفها الإستراتيجي مع روسيا، ومن ثم سيتوسع هذا التحالف ليضم دولاً أخرى، وقد يكون من بين هذه الدول دول من الحديقة الخلفية لأميركا وهو ما يهدد النفوذ والحضور الأميركي ويشرع في المقابل من توسع الوجود الروسي الصيني ليصل إلى الحدود الأميركية، كما أنه على الصعيد الاقتصادي فإن العمليات الروسية في أوكرانيا، وإن أدت لارتفاع قيمة مصادر الطاقة 400 بالمئة، فإن أي مغامرة مع الصين ستؤدي لشلل اقتصادي دولي.

رابعاً- هذه النقطة مرتبطة بسابقتها إلى حد ما وتتعلق بالنظامين النقدي والمالي السائدين وفق النظام الليبرالي الرأسمالي، حيث بات اليوم في حالة خطر غير مسبوقة وفق تقديرات بحثية غربية، على الرغم من استمرار أميركا بهيمنتها وتحكمها على مؤسسات هذا النظام من صندوق النقد والبنك الدوليين، إلا أن أزمة المناخ المتسعة وقلة موارد الطاقة في أوروبا وصعوبة تأمين البديل، واتساع دائرة الدول المتعاونة بالعملات المحلية، وازدياد نشوء التكتلات والمنظمات الاقتصادية الإقليمية والدولية مثل شنغهاي وبريكس، جميعها عوامل من شأنها أن تزيد من تصدع النظام الليبرالي وتجعله في حالة عدم استقرار تدفعه نحو المزيد من الوحشية القائمة على الاحتكار والابتزاز.

خامساً- هيبة أميركا المتآكلة على شاكلة بايدن الهرم، وهذا برز في صورة الانسحاب الهزيل من أفغانستان، ولو أن القرار اتخذ في حقبة ترامب، حيث شكل هذا الانسحاب صورة مثلى عن عدم وفاء أميركا بحلفائها وعدم قدرتها على القضاء على الإرهاب بعد عقدين من الغزو والاحتلال، وازداد هذا التآكل بالهيبة الأميركية في زيارة بايدن لمنطقة الخليج الشهر المنصرم، والتي اتسمت باستقبال رديء لم يعتد عليه الرؤساء السابقون ومطالب غير مستجابة.

على كل الأحوال دعونا نتفق أن حقبة بايدن على صعيد السياسة الخارجية وفق المعطيات السابقة، هي من أكثر الحقب سوءاً في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية وهي تعكس الشيخوخة العمرية لرئيسها، وهو ما يجب الاستفادة منه واستغلاله من الدول الصاعدة في النظام الدولي، لأن أميركا وإن مرت بمرحلة هزلية حالياً، إلا أنها مازالت تمتلك موارد وإمكانات الدولة العظمى.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن