قضايا وآراء

عن الإصلاح والانفتاح والاستفادة من دروس الآخرين.. هل كان غورباتشوف عميلاً؟!

| فراس عزيز ديب

ماتَ آخر رئيسٍ للاتحاد السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف، والذي قيلَ إن على يديهِ سقطَ القطب الثاني في العالم آنذاك، لكن تبقى هذهِ الرواية مجتزأة أو في اتجاهٍ واحد حيث قيلَ أيضاً باتجاهٍ آخر إن فترةَ بقائهِ في الحكم والوعود التي أطلقها في الإصلاح والانفتاح هي التي أطالَت بعمر الدولة الند للولايات المتحدة الأميركية، لكن مع تلاشي هذهِ الوعود مع الوقت بدأَ جسم الدولة يتضعضع من الأطراف على طريقةِ «ابن خلدون» في التبشير بسقوط الدول.

«كيف يمكن لشخص أن يقودَ نظاماً صُممَ أساساً للإبقاء على أشخاص مثلهِ في الأسفل، نحو الانهيار»؟! هذه العبارة يكَّررها كثر من أساتذة العلوم السياسية في الغرب ليس فقط ليوصِّفوا فيها حدثاً بمثابةِ سقوط الاتحاد السوفيتي السابق لكن لتوضيح الآلية التي وصلَ فيها ميخائيل غورباتشوف إلى السلطة وهو في عمر الثانية والخمسين فقط، في نظامٍ كان محمياً من جنرالاتٍ وأجهزة استخباراتية معقدة، هذه العبارة على بساطتها توحي لنا بأن كل ما كان يُقال عن دورٍ غربي في تفكيك الاتحاد السوفييتي عبر إيصال «العميل غورباتشوف» إلى السلطة هي محض أوهام، لا يمكن لنظام سياسي منغلق إلى هذا الحد أن يكون لقمة سائغة بهذه الطريقة الساذجة، هذا الكلام يبدو أولاً وأخيراً إهانة لمكانة الدولة السوفييتية ومحاولة للضرب على إرثها وإرث الرفيق جوزف ستالين حتى بعدَ مماته، بل إن وصول غورباتشوف إلى السلطة كان نتيجة منطقية لاقتناع أعمدة الدولة أن التغيير يجب أن يبدأ لأن العالم يتغير بما في ذلك الدعوة نحو الانفتاح، وعندما نتحدث عن الانفتاح لا نعني فقط كل ما يتعلق بحرية الرأي أو الإفراج عن المعارضين السياسيين، لكننا نتحدث عن انفتاح من نوعٍ آخر وهو الأهم، ويمكننا تلخيصه باتجاهين أساسيين:

أولاً: انفتاح نحو الإصلاح

دائماً ما يكون هناك صراع بين مصطلح «الإصلاح» بمفهوم البحث عن الخلل في المنظومة أو العقلية التي تُدار بها مقدرات الشعب، لجعلها تعمل بشكلٍ أقرب للواقع، ومصطلح «الهدم وإعادة البناء» وهو ما يحتاج إلى ديناميكية أسرع في اتخاذ القرار بعدَ تجريب الكثير من الخيارات الإصلاحية دون نتيجة، ومما لاشك فيهِ بأن هناك الكثير من الدول أخطأت في فهمِ احتياجاتها، فالإصلاح لن يؤتي ثماراً لأن الأساس الذي يُبنى عليه هذا الإصلاح بدا غيرَ قابلٍ لحملِ المزيد من الأثقال، الأمر أشبه تماماً بتضعضعِ سقف المنزل وحدوث انهيارات داخلية فصلت الجسم البيتوني عن حديد التسليح، ويبدو من المدمِّر هنا بمكان التفكير بإصلاح السقف أو وضع سقفٍ جديد لأن الأساس ليسَ مهيأً لحمل أوزان جديدة، الحل الأمثل يكون بالهدم وإعادة البناء حيث تشكل الأرض هنا الزاد الأهم الذي يمد الدولة بالحياة والقدرة على النهوض ببناءٍ جديد، لعل هذه المقاربة لا تنطبق فقط على الحال السوفييتي لكنها تنطبق على الكثيرِ من الدول التي نهلَت منه في التجربتين الاشتراكية والقومية، الهدم وإعادة البناء ليسَ عيباً، العيب هو في المزيد من تصدعات السقف مع كل يوم نتأخر فيه بالهدم وإعادة البناء، ربما بنى غورباتشوف فكره الإصلاحي على هذا الأساس بعدَ أن أدركَ حجم الفساد الذي ضربَ «سقف» الدولة، هو ذات نفسه يقول بهذا السياق إن حادثةَ التسرب النووي من مفاعل تشيرنوبل الشهيرة 1986 فتحت عينه كثيراً على حجم الفساد والترهل الذي يضرب جسم الدولة، هذا الفكر الإصلاحي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي بما فيها الحديث عن الحد من السيطرة الشيوعية على السلطة والمزيد من الانفتاح باتجاهِ الاقتصاد الليبرالي للحد من الثروات المنهوبة في الدولة، طرحهُ غورباتشوف حتى قبل وصولهِ إلى الرئاسة، أليسَ من السذاجةِ بمكان الاعتقاد أن كل هذهِ الأفكار مرَّت مرور الكرام أمام الأجهزة الأمنية والحزبية السوفييتية ووقع كيان الدولة فريستها بإيصال «العميل غورباتشوف» إلى السلطة؟ تبدو هذهِ المقاربة أشبهَ بفيلم هوليودي روَّجت له الرأسمالية لتأكيد ترهل الدولة السوفييتية وصدَّقها السُّذَّج، في الحقيقة كانت الرغبة السوفييتية في الإصلاح كبيرة لكن الرغبة شيء والواقع شيء آخر، هناك طبقات كانت مستفيدة من حجم الفساد في الدولة الذي يأكل من زاد المواطن، هذه الطبقات كانت تضغط لعدم السماح بحدوث إصلاحات كهذه لكونها المتضرِّر الأكبر، طبعاً للتوضيح هنا فإن هذه المقاربة لا تعني بأن الدول الرأسمالية خالية بمنظومتها الاقتصادية والاجتماعية من الفساد، لكنه فساد في الطبقات العليا حيث صراع رأس المال فيهِ يتم بعيداً عن لقمةِ المواطن والتأثير فيه، من هنا تبدو مقاربة الإصلاحات التي أرادها غورباتشوف وردّةَ فعل من حاول إعاقتها، أحد أسباب حدوث الخلل في جسم الدولة، فالجميع ليسَ جاهزاً للتغيير ببساطة!

ثانياً: انفتاح نحو الآخر

يُقال إن غورباتشوف هو من فتحَ الباب أمام الجمهوريات الشيوعية السابقة غير السوفييتية للخروج من عباءةِ الدولة السوفييتية، ويُقال أيضاً إن لغزَ سقوط جدار برلين وتوافد الألمان من الجهة الشرقية باتجاه الغربية ما كان ليتم لو لم يكن غورباتشوف في الحكم، هذه المعلومة لا تستند حقيقةً إلى أي أسس منطقية في التحليل، بمعنى آخر ماذا كان على غورباتشوف أن يفعل ليُبقي على هذهِ الدول في المنظومة، وما لهُ من مدلول بقاء المعسكرين الشرقي والغربي؟ هل كان عليهِ إرسال الطائرات الحربية لقصف «ساحة الأوبرا» في بوخارست حيث تجمع معارضو الزعيم الروماني السابق نيكولاي تشاوتشيسكو وطالبوا برحيلهِ؟ هل معنى هذا الكلام أن القيادة الروسية الحالية أخطأت بعدم «قصف» الثورة البرتقالية في أوكرانيا التي أطاحت بالموالين للروس حسب الإعلام الغربي؟! لماذا أخفق النظام الاشتراكي في يوغسلافيا السابقة بإذابة النزعة العرقية والدينية والطائفية بين سكان الاتحاد اليوغسلافي التي أدت في النهاية إلى حربٍ طائفية لم تشهد أوروبا لها مثيلاً منذ حرب المئة عام بين فرنسا الكاثوليكية وبريطانيا البروتستانتية 1337؟ هناك من يتجاهل طرحَ أسئلة كهذه عندَ مقاربة هذه المرحلة، بما في ذلك الأخذَ بعينِ الاعتبار الوضع الاقتصادي المتردي للاتحاد السوفييتي في تلك الفترة نتيجة ما كان يُصرف على بحوث الفضاء أو ما يُعرف بحربِ النجوم وسباق التسلح مع الولايات المتحدة الأميركية، لأننا اعتدنا عملياً على التعاطي باتجاهٍ واحد ومنطق واحد تغلبه العاطفة لا أكثر، بل لو ذهبنا أبعدَ من ذلك لتساءلنا أين المنظومة الشيوعية في العمل السياسي الأوروبي اليوم؟ كم عدد الأصوات التي حصلت عليها المرشحة الشيوعية «الدائمة» في فرنسا ناتالي آرتو لانتخابات الرئاسة التمهيدية الأخيرة؟ نسب مخجلة بعدَ أن كان الحزب حتى في فرنسا قادراً على إيصال شخص كالرئيس الأسبق والشيوعي الانتماء فرانسوا ميتيران إلى سدة الرئاسة، المشكلة تكمن هنا في إخفاق التجارب السياسية التي لم تفهم بعد حركة التغيير من حولها بما فيها النزعة نحو تهدئة النزاعات الدولية كما فعل غورباتشوف في العلاقة مع الولايات المتحدة؟ بمعزل إن اتفقنا أو اختلفنا مع هذا التوجه يومها لكنه عملياً كان أدرى بمقدرات الدولة والتهدئة بهدف الالتفات للداخل، ومشاكله لم تكن كارثة، الكارثة بمن يرى الواقعية السياسية انهزاماً، هل أخطأ أم امتلك الواقعية السياسية؟

بصراحة لست هنا لكي أُعطي جواباً، كل ما فعلته هو الإضاءة على جوانب يحاول البعض التعتيم عليها عند تقييم تجارب الآخرين، لستُ شيوعياً ولا غير شيوعي إذ لا تعنيني أي أيديولوجية سياسية في هذا العالم، بالوقت ذاته لا يعنيني الدفاع عن غورباتشوف من عدمهِ، كل ما يعنيني هو الاستفادة من تجارب الآخرين بما فيها المحاولات التي فشلت على الأقل كي لا نُعيد تكرارها بالأدوات ذاتها ونتوقع منها نتائج مختلفة، تجارب الآخرين تقدم لنا دروساً مجانية علينا الاستفادة منها بدلَ الحديث عن عمَالة هذا ودور الماسونية في زرع الآخر والكثير من الشعارات التي باتت مادة للتندر، أما مللتم من خطابات كهذه؟ ربما حتى الروس أنفسهم تجاوزوا هذه المرحلة فيما لا يزال المواطن العربي في هذا الشرق البائس يجلس ليعطينا دروساً في التجربة الغورباتشوفية في سقوط الدول! نحمد اللـه أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يفكر بطريقتكم، دققوا فقط لتعرفوا أن الاستفادة من التجربة الغورباتشوفية في روسيا تسير على قدمٍ وساق وهو ما نجحت القيادة الروسية اليوم بترسيخه، قد تختلف الأدوات والمنهجية لكن المبدأ واحد: الدولة تحتاج إلى إصلاح وانفتاح لا شعارات.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن