ثقافة وفن

جيل الحداثة.. جيل الرواد الثاني 3 … استلهم الاتجاه الثاني التراث السوري القديم وأكد الثالث الخصوصية المحلية

| سعد القاسم

تحدثت الحلقة السابقة عن الاتجاه الأول لجيل الحداثة نحو استلهام التراث الفني السوري بعد الإسلام لجهة الخط والزخارف. أما الاتجاه الثاني فقد عمل على استلهام التراث الفني السوري القديم، وسعى لوصل ما انقطع بين التراث الفني السوري القديم (الرافدي والتدمري والمسيحي)، وبين عصرنا، وأهم من يمثله هذا الاتجاه الفنان المعلم الياس زيات (1935 – 2022) الذي اهتم بشكل عميق بالتراث الفني لسورية، وخاصة الفن التدمري والفن المسيحي، وكان لمساهمته الأساسية في مهرجان الأيقونة السورية دور بالغ الأهمية في توثيق ودراسة هذا الفن السوري الأصيل، وقد ترافق هذا الاهتمام مع حضوره المؤثر كمدرس في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ورئيس لقسم التصوير فيها، ووكيل علمي لها، وأستاذ للدراسات العليا، وإضافة إلى ما سبق فقد أنجز الكثير من البحوث النظرية بالغة الأهمية، ومنها ما يمكن اعتباره تأريخاً موثوقاً وعارفاً للفن السوري، وتوثيقاً له. فالصلة الوثيقة التي ربطت زيات بكبار التشكيليين السوريين، ومعرفته الواسعة بتجاربهم، وتجارب الأجيال التي تلتهم، وبالحركة التشكيلية السورية بشكل عام، كل هذه الأمور أتاحت له أن يمتلك رؤية شاملة للمشهد التشكيلي السوري تتسم بمصداقية مطلقة. وإذا أضفنا إلى ما سبق إسهاماته الإبداعية في هذا المشهد، وفي الحياة الثقافية السورية بشكل عام، يبدو طبيعياً حصوله عام 2013 على جائزة الدولة التقديرية، كما يبدو مفهوماً ذلك التقدير الكبير الذي عبّر عنه العارفون بالفن التشكيلي إثر رحيله مطلع أيلول الماضي.

الاتجاه الثالث

ينتمي هذا الاتجاه- بشكل ما- إلى الاتجاه السابق، وقد اهتم بالتأكيد على الهوية المحلية من خلال الواقعية والتعبيرية، ويقف على رأسه الفنان المعلم فاتح المدرس (1922-1999)، الذي اعتبر رائد اتجاه سوري خاص يتراوح بين الواقعية والتعبيرية والتجريد. وقد تأسست تجربة فاتح المدرس على موهبته التشكيلية وشمولية ثقافته وحواره الإبداعي الدائم مع الفكر الإنساني وإنتاجاته الفلسفية والفنية. وساهمت عدة مصادر في صوغ إبداعاته التشكيلية أهمها ما حفظته ذاكرة الطفولة حيث عاش في الوقت ذاته شطراً قاسياً وغنياً بالصور من حياته. وتتقدم تلك الصور صورة وجه أمه المتكرر بوفرة في لوحاته، ومشاهد السهول الفسيحة قليلة الأشجار وقد ظلت تظهر في أعماله، كما شكّل التراث الفني مصدراً أساسياً لتجربته، وقد تجلى في أسلوب بناء اللوحة وفي التأثيرات المعاد صياغتها للفن الآرامي والآشوري والفينيقي والتدمري التي تكاد لا تغيب عن أي من لوحاته، وتزيد ألوانه المشبعة بلون تراب الأرض والتي مزج معها أحياناً تراباً حقيقياً انتماء تجربته إلى خصوصيتها المحلية التي أعطتها مكانة استثنائية. ففي تأكيده على أهمية الشكل في اللوحة، وسعيه لتخليصها من تأثير الأدب نجد أنه لم يصل إلى مرحلة التجريد، فللشكل واللون عنده قيم تعبيرية يجدها البديل للسرد الأدبي، وللنقل الفوتوغرافي عن الطبيعة، وللعبث التجريدي.

اتجاه القسم الأكبر

يضم هذا الاتجاه (التأكيد على الهوية المحلية من خلال الواقعية والتعبيرية) القسم الأكبر من أصحاب التجارب الفنية السورية المهمة في الخمسينيات وما تلاها، وتعود جذوره إلى أكثر من تجربة في جيل الرواد الأول، وخاصة الفنان الرائد صبحي شعيب (1909-1974) حين تناول المواضيع الشعبية والاجتماعية الناقدة. كان يرسم مشاهد حية من الحياة، وكان أبطال لوحاته أناساً محليين بأزيائهم وحركاتهم، يظهرون ضمن تكوين متماسك ومتوازن ومُنَفَّذٍ بأسلوب واقعي قريب من التعبيرية مليء بالعفوية والحيوية والصدق، كما في لوحته (العودة إلى القرية) وفي عام 1950 حصلت على الجائزة الأولى في المعرض السنوي الأول في المتحف الوطني في دمشق. ولوحته الأكثر شهرة (العميان الثلاثة) التي اقتناها المتحف الوطني في دمشق وتعود لعام 1955 وصور فيها الفنان ثلاثة أشخاص يقومون بنزهة في ضواحي حمص للتمتع بجمال الطبيعة، وقد أسس في مطلع الستينيات مركز الفنون التشكيلية في حمص وتتلمذ على يديه عدد كبير من الفنانين الذين رفدوا الحركة الفنية، وقد أطلق اسمه على المركز بعد رحيله.

زاره كبلان

ومن فناني جيل الرواد الأول الذين مهدوا لجيل الحداثة الفنان الرائد زاره كبلان (1911- 1971) الذي ساهم بشكل فعّال في تطوير الحركة التشكيلية في مدينة حلب حيث عاش فيها أكثر سنوات عمره قبل أن يغادرها إلى باريس ويتوفى فيها. فقد شارك في تأسيس (أكاديمية صاريان) للفنون عام1950 مع عدد من الفنانين وترأس إدارتها، ودرَس فيها. ‏ كما شارك في المعارض الرسمية خلال الخمسينيات، وقدم في معرض الخريف في دمشق عام 1959 لوحته (بيوت) التي تصور مجموعة من البيوت المتراكبة والمتقاربة إلى بعضها بعضاً، منتشرة على شاطئ البحر الذي يحوي بعض الزوارق، اعتمد في رسمها على الخطوط المستقيمة الأفقية والعمودية والمنكسرة التي تحصر بداخلها مجموعة من الألوان المحلية، معتمدا على المدارس التجريدية والتكعيبية بألوان انطباعية. وتدل اللوحة على متانة التصميم والتشكيل، وتظهر بوضوح مقدرته في البناء الهندسي، المنسجم مع المساحات اللونية، وقدرته أيضاً على إعداد اللون وتشكيله ما يدل على تأثير دراسته الهندسية في أعماله الفنية، ليقدم مفهوماً جديداً للانطباعية المتحررة من القيود المدرسية، بمزجها بالواقعية الجديدة، متأثراً بالفنان الحلبي الرائد منيب النقشبندي. ‏

الفرد حتمل

ومن الأسماء البالغة الأهمية في هذا الاتجاه الفرد حتمل (1934–1993) الذي تم تكريم ذكراه ضمن الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري الشهر الماضي، والذي تمتلك تجربته خصوصية واقعية محلية، تتلمذ حتمل على يد ناظم الجعفري الذي عرّفه على الدراسة الواقعية، ثم شجعه أدهم إسماعيل على الرسم، ونظم له، ولبعض الموهوبين الشباب، معرضاً في المتحف الوطني في دمشق، وفتح هذا المعرض الباب أمامه ليعمل، ويشارك في المعارض الفنية الرسمية المختلفة، ولبداية تكّون شخصيته الفنية. ربط تجاربه الفنية بمواضيع تتصل بالأرض وعلاقتها بالمرأة في الريف. وتشير اللوحات الأولى التي عرضها، ومنها لوحة (الخريف) لعام 1960، ولوحة (نظرة صامتة) التي قدمها لمعرض الربيع 1960، وكذلك لوحة (منظر) التي رسمها هي الأخرى بنفس العام، إلا أنه كان يرسم الأشجار بانفعال واضح، وبضربات فرشاة عريضة، فقد كان واقعياً، يضيق ذرعاً بأن يقف عند النقل التسجيلي لما يراه، باحثاً عما يختفي خلف المنظر، أو خلف النظرة، ويوحي بأن الموضوع ليس نقلاً مباشراً عن الطبيعة، وإنما الوصول إلى تعبير إنساني من خلال عناصر المشهد. وقد ازدادت هذه التحويرات للواقع مع الزمن. في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات تميزت تجربته كما رأى الناقد طارق الشريف: «بالقدرة على السيطرة على اللوحة، والبساطة المتناهية في المعالجة، فالأرض هي التي تتوهج، وهي التي تأخذ الأهمية الكبيرة في مساحة اللوحة، والناس يعملون في هذه الأرض، بدرجة إضاءة إضافية، واللون يكتمل عن طريق خلق جديد يتجلى في أن الأشخاص قد أصبحوا ظلالاً، كأننا نراهم والضوء ينبعث من ورائهم من الأرض، وهكذا تكامل البحث وأعطى فيه خلاصة مكثفة لكل تجربته».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن