ثقافة وفن

جيل الحداثة.. جيل الرواد الثاني 4 … نشأت الزعبي.. جزء من البيت السوري الذي يجري في عروقه ودمه … كيالي.. بعد مرحلة بهيجة مليئة باللون عاد ليغادر الدنيا بحريق منزله

| سعد القاسم

تتابع هذه الحلقة الحديث عن الاتجاه الثالث في جيل الرواد الثاني (الحداثة) الذي أكد الهوية المحلية من خلال الواقعية والتعبيرية، والذي يضم القسم الأكبر من أصحاب التجارب الفنية السورية المهمة في الخمسينات وما تلاها.

لؤي كيالي والتفرد

من بين أحد الأسماء الأكثر شهرة في هذا الاتجاه، وفي التشكيل السوري عامة، لؤي كيالي (1978-1934). وقد أقام معرضه الفردي الأول قبل أن يصل إلى العشرين. ثم اشترك في معرض الجامعة عام 1955 وفاز فيه بالجائزة الثانية. التحق بكلية الفنون الجميلة في روما، وأثبت تميزه كطالب عبر نجاحات في مسابقات الرسم في المدن الإيطالية. واشتهر في تلك المرحلة برسم الوجوه، وبالذات الوجوه النسائية الجميلة. بأسلوب واقعي تعبيري يتسم بتكنيك جديد جذب إليه الأنظار، ورافقه بعد عودته إلى دمشق. في السنوات الخمس الأولى على عودته من إيطاليا حقق نجاحات كبيرة وفي عام 1966 شهدت تجربته تحولاً حاداً بفعل الجو الثقافي السائد حينذاك، فرسم لوحته الشهيرة (ثم ماذا؟) وفي الفترة ذاتها أصابته أزمة نفسية فأحرق لوحاته وأرشيفه الصحفي، وتم إرساله للعلاج. وقد ترافق ذلك مع تسريحه من عمله كأستاذ في كلية الفنون الجميلة بسبب استنفاد إجازاته الصحية. في مطالع السبعينيات الماضية تعافى من أزمته النفسية، واتجه منذ العام 1973 إلى أسلوب الرسم على نشارة الخشب المضغوطة بألوان شفافة، وبدأ يهتم بالمساحات الواسعة، فأبدع مجموعة من لوحاته المهمة. بعد هذه المرحلة البهيجة عاد ليدخل أزمة نفسية من جديد، ثم غادر دنيانا بعد نحو ثلاثة أشهر من احتراقه في مرسمه بمدينة حلب. وبعد حياة لم تدم أكثر من أربعة وأربعين سنة كانت رغم قصرها حافلة بالجدل حول فنه وشخصه. فالفنان الذي بدأ مطلع الستينيات الماضية حياة إبداعية هادئة تهتم أساساً برسم المواضيع التي يفضلها عشاق الفن الأثرياء، وجد نفسه قبيل أواخرها مستغرقاً في هموم الناس البسطاء، وقضايا شعبه الكبيرة ليحقق تحولاً حاداً في اتجاهه الفني مضحياً بجمهوره التقليدي.

أحمد دراق السباعي

يمكن أن يُنسب إلى الاتجاه الثالث أحمد دراق السباعي (1978-1935) الذي اكتشف موهبته باكراً فدرس في مركز صبحي شعيب للفنون التشكيلية في حمص، وشارك عام 1945 مع بعض الفنانين الشباب في معرض حمص، ومنذ عام 1955 شارك بالمعارض الرسمية. كما شارك في معرضي الربيع والخريف (في حلب ودمشق) خلال أعوام 1961-1960-1959. سافر إلى باريس عام 1967 للعلاج وهناك أتيح له الاطلاع على تجارب كبار الفنانين، وتأثر بسيزان وفان غوخ. أعتبر معجم (لاروس) Larousse لوحاته بأنها Naïve (بسيطة أو فطرية) لكنها في الواقع عبرت عن مقدرة تشكيلية كبيرة، واتسمت بالهدوء والسلام، والإحساس بلون المكان وخصائصه، رغم أنها بدت وكأنها مستوحاة من عالم الطفولة، عمل مدرساً في مركز صبحي شعيب حتى مماته، وتأثر به كثير من الفنانين الذين عاصروه أو درسوا معه، أو جاؤوا بعده.

نذير نبعه

بدوره يعتبر نذير نبعه (2016-1938) أحد أشهر الأسماء في الفن التشكيلي السوري. بدأ بالتعبير عن موهبته في وقت مبكر من عمره، وإثر نيله الشهادة الثانوية عام 1959 نجح في مسابقة للحصول على منحة مقدمة من وزارة التربية للدراسة في كلية الفنون الجميلة في الإقليم الجنوبي (كما كانت تسمى مصر في إطار دولة الجمهورية العربية المتحدة) وإثر تخرجه فيها عيّن أستاذاً للرسم في دير الزور حيث تابع شغفه القديم بتأمل المشهد الطبيعي المحيط، والتعبير عن خصوصيته، بالتزامن مع سلسلة لوحات غيرها مستوحاة من أساطير حضارات المنطقة. وفي عام 1968 انتقل إلى مديرية الكتب المدرسية، حيث كلف بإنجاز رسوم عدد من الكتب، فكان عمله هذا مناسبة للكشف عن موهبته كغرافيكي، وفي العام ذاته تقدم إلى مسابقة للمعيدين في كلية الفنون الجميلة، ليصبح بعد نجاحه فيها واحداً من أهم أساتذتها، وأكثرهم تأثيراً في الطلاب، وقام بالتدريس في أقسام الكلية جميعاً، وكان أحد مؤسسي قسم الدراسات العليا في الكلية عام 1980 مع محمود حماد وفاتح المدرس والياس زيت. في عام 1975 بدأت المرحلة الأطول زمنياً، وربما الأغزر إنتاجاً، في تجربته، وهي مرحلة (الدمشقيات) التي استمرت ست عشرة سنة، وكانت هذه المرحلة – على وفرة حضورها الزمني، والفني، وقدرتها على الإمتاع والإدهاش- غريبة، إلى حد ما، عن المسار الذي اتخذته تجربة نذير نبعه حتى ذلك الحين، والذي كان يتجه نحو مفاهيم الحداثة. ومع مطالع القرن الجديد عرض النتائج الأولى للمرحلة الثالثة من تجربته التي أطلق عليها عنوان (التجليات)، وامتدت هذه المرحلة حتى آخر عمره. وقد قُلّد عام 2005 وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى في حفل خاص بمكتبة الأسد الوطنية.

نشأت الزعبي

درس نشأت الزعبي أيضاً في القاهرة، وأكمل دراسته في دمشق. ولد عام1939 في إحدى الحارات القديمة وسط مدينة حماة، وفي السادسة من عمره قصفت طائرات المحتل الفرنسي الحارة فألحقت ضرراً بمنزله. ودُفنت تحت أنقاض المنزل المجاور جارتهم وابنها صديق طفولته. وقد ظلت الصورة الأقدم للمنزل الذي شهد ولادته حاضرة في ذاكرته، ثم في لوحاته يستعيد تفاصيلها الحميمة بواقعية ذاتية تترجم ما يعتمل في داخله. وقد بدت هذه التوجهات مع أعماله الأولى في مقتبل عمره، ثم في جميع مراحل عمره التي قدم بمحصلتها تجربة بالغة الأهمية في المشهد التشكيلي السوري تندرج بين تلك التجارب الأكثر تميزاً التي أبدعت لوحة سورية، بروح مبتكرة، وخصوصية ذاتية تضاف إلى الخصوصية المحلية فتمنح اللوحة أهمية إبداعية بهية تسمو بها على أن تكون مجرد صورة متقنة، أو دليلاً سياحياً. في تلك الرحلة الثرية نلقى تجمعات فنية طموحة، وتجارب جريئة، وعطاءً كبيراً في مجال التعليم بدأ من ثانويات حماة، وتوَج في كلية العمارة بجامعة دمشق. ومن بعد التخرج توجه نحو البيئة الشعبية، وأخذ يمنح البيئة انطباعاته وإحساسه ببساطة ألوانه وابتعادها عن البهرجة والتزويق، وعمق تأثيرها الوجداني. بعيداً عن التصنع والتفاصيل الزائدة، وبعيداً عن الزخرفة، وبعيداً أيضاً عن المحاكاة السطحية والتكرار.

لأسباب تتعلق بتوفير متطلبات الحياة ابتعد نشأت الزعبي عن سورية نحو عشرين سنة عمل خلالها في الكويت، لكن سورية لم تغب عنه، ولا عن لوحته خاصة، ويختصر تلك العلاقة بالقول: وإنما أنا جزءٌ من البيت الإنساني السوري على وجه الخصوص، وفي عروقي لا تجري إلا دماء المجتمع الذي أعيش فيه، لذلك تمسكت بما أنا عليه: لوحة تتناول صلتي بما حولي. نال العام الماضي (2021) جائزة الدولة التقديرية.

خالد المز

بدا التحول الحاسم في توجهات تجربة خالد المز المولود عام 1938 من خلال سلسلة لوحات أنجزها بعد دراسته في مصر، بالتزامن مع مرحلة تعالت فيها الدعوات المطالبة بإيجاد هوية خاصة للفن التشكيلي العربي، ودعوات مقابلة للخروج بالتشكيل العربي نحو مفاهيم العصر، أدتا معاً إلى وفرة التجريب والبحث في التجارب التشكيلية العربية المعاصرة، واتساع حضور تيارات التجريد والتعبيرية. وتبدو أعماله في تلك المرحلة على الحد الفاصل (أو الواصل) بين هذه التيارات. وقد حرص على مناخ قليل المفردات اللونية، وفي الوقت ذاته غني بـ(اللون الداخلي) بمشتقاته ودرجاته ومتمماته.. ولعل الميل للتحرر من قيود المنظور الهندسي، الذي عبر عن نفسه منذ البداية، قد ساهم في دفع مسار التجربة نحو هذه المرحلة، جنباً إلى جنب مع الاهتمام بالجسم الإنساني (الأنثوي خاصة) الذي صار الموضوع الأوفر حضوراً في لوحاته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن