ثقافة وفن

حياة دمشق الحضارية في قرن من الزمن … سكة الترامواي.. طريق الحداثة مرّ بدمشق ذاكرة أمة ومدينة

| إسماعيل مروة

حين يكتب أديب بوزن أمين معلوف.. من مآسي مشرقنا أن الحداثة الاجتماعية والفكرية، التي تبدو في يومنا هذا بعيدة المنال، بدأت تسري قبل أجيال في عروق أبنائه وبناته، بفضل رواد مبدعين كان في وسعهم أن يحولوا هذه البقعة من العالم إلى منارة حقيقية للتقدم والحضارة.. حين يكتب أمين المعلوف، فهذا يعني أننا أمام شيء مختلف استحق من المعلوف أن يتحدث عنه، وحين نعرف أن الكلمات هذه إنما كتبت عن كتاب المؤرخ الصديق الدكتور سامي مروان مبيض، فهذا يشكل حافزاً للقراءة.. فماذا في هذا الكتاب؟

الترامواي والحداثة

هذا الكتاب هو الكتاب الثامن في سلسلة كتب مبيض بالعربية، فقد قدّم من خلال دار الريس خمسة كتب هذا سادسها، وقدّم كتابين مهمين لم يأت على ذكرهما في قائمة كتبه هما (الشهبندر ورسالته المفقودة 2017 المنشور في دار البشائر، ومدحة باشا 2022 دار بستان هشام- دمشق).

وهذه السلسلة المتكاملة تدخل في إطار التوثيق الذي أخذ به نفسه الدكتور مبيض في رحلته الكتابية، وبحكم اطلاعي على هذه الكتب، فإنها جميعها تتميز بالجدة، ويطرح د. مبيض في إطار التوثيق قضايا إشكالية ومهمة، والكثير منها يطرح لأول مرة، فالكاتب أخلص حياته للوثيقة والاحتفاظ بها وأرشفتها، وأزعم أن هذا الكتاب هو من أهم كتبه، ومن أخطرها وأكثرها جرأة، لأن المؤرخ يظهر ميله، ومحاكمته للمجريات تبدو واضحة للعيان أكثر من أي كتاب آخر.. وقد أطلق الكاتب على كتابه عنواناً مراوغاً (سكة الترامواي) ولكنه أطلق عنواناً فرعياً شارحاً (طريق الحداثة مرّ بدمشق) فقد يتبادر إلى الأذهان أن سكة الترامواي هي الغاية، ولكن العنوان المراوغ الذكي أدى ما أراده مبيض ببراعة، فكأن المؤلف يصحب قارئه في عربة الترامواي لينتقل به من محطة إلى أخرى في تاريخ الحداثة والتحدث في سورية ودمشق منذ البدايات إلى اليوم الحاضر.

تنوع روافد الحداثة

تحدث عن الاستعمار العثماني والتحولات السياسية، والاستعمار الفرنسي والتقلبات السياسية والاجتماعية والعمرانية، وعن الظروف التي أجبرت الأتراك على اتخاذ خطوات إصلاحية استثمرها رواد النهضة مع الدستور العثماني وما تلاه، والسماح للجمعيات السياسية فترة، ومن رحم هذه الفترة خرجت الأفكار السياسية والشخصيات السياسية السورية «انتقال المجتمع السوري نحو الحداثة بدأ فعلياً مع التنظيمات العثمانية التي أسست لطبقة وسطى من المجتمع، أصبح أبناؤها أداة التغيير والتطوير في بلادهم، جاءت التنظيمات رداً على مطالب الدول الأوروبية لعصرنة الدولة العثمانية».. ومن المقدمة يفرد مبيض أوراقه بغير تحفظ ليظهر مكونات الكتاب التوثيقي والنقدي الذي يقدمه «العنوان العريض لهذا الكتاب هو الحداثة ومعركة التغيير في المجتمع السوري، شُنت هذه المعركة عمودياً وأفقياً على ثلاث جبهات بين ثلاثة مكونات اجتماعية، الشباب المتعلم وآباؤهم المحافظون، الرجل والمرأة، العلمانيون ورجال الدين، تنوعت منصات الصراع، وكثرت أمكنته: في الأزقة والحارات، داخل المنازل، في المساجد، في جامعة دمشق، على خشبات المسارح..».

فمع أن العنوان العريض سكة الترامواي، وهو العنوان التصنيفي في علم المكتبات والنشر، إلا أن المؤلف بعد أن أخذ جواز السفر إلى قلب القارئ يظهر بوضوح أن الغاية تتمثل في الحداثة، وهذا الكتاب يظهر بجلاء معنى الحداثة الذي نتغنى به عن سورية في الماضي، فالأمر ليس سياسياً، وإنما حداثة وتحضر وثقافة ومدنية وفكر ورياضة، وحياة برلمانية وسياسية في الوقت نفسه، وبين مكونات المجتمع كافة..

بين العلمانيين ورجال الدين

من نافذة الترامواي الذي يجوب دمشق من أواخر العهد العثماني إلى المرحلة الفرنسية إلى العهد الوطني، وإلى زمن قريب كان مبيض مراقباً وناقداً للتيارين العلماني والديني ودورهما، فالحياة الجديدة في دمشق والأحياء الجديدة أخرجت الجيل الدمشقي الجديد، وبدأت النقاشات على خلفية المنتديات والمجالس، ومن عام 1919، وكانت النقاشات حادة وجادة «دار نقاش حاد بينهم وبين النواب الشباب المنادين بإسقاط البسملة من النصوص الحكومية، بهدف إبعاد الدين عن السياسة والتشريع.. وسجل في هذا النقاش ما دار من صدام.. ويتابع مع دخول فيصل إلى دمشق ويسجل حذره من الشارع الديني.. لم ينقطع فيصل يوماً عن هذا المجتمع المحافظ، ولكنه لم يجاهر بأفكاره الغربية، خوفاً من انتقاداتهم.. وعندما افتتح متحف دمشق بتشجيع من الملك فيصل وضعت فيه المنحوتات والتماثيل، فاعترض الشيخ بدر الدين الحسني، ولم يمانع بعد النقاش، لكن علي الطنطاوي ردّ على عبد القادر المغربي «كيف يتحدث الشيخ الحسني بهذه الخدعة المضحكة التي خدعته بها وتفرّ هذه الأصنام وهذه التماثيل؟ اتق الله يا أستاذ» وفي اغتيال عبد الرحمن الشهبندر ينقل مبيض من الوثائق.. دخل شاب متدين من باب سريجة على الشيخ مكي الكتاني نائب رئيس رابطة العلماء المسلمين، وسأله: ما جزاء الخائن في الإسلام؟ ودون تردد أجابه الشيخ الكتاني: القتل: اتخذت هذه الفتوى الشرعية لتصفية الدكتور عبد الرحمن الشهبندر».

ومع دخول كرة القدم 1910 يقول مبيض «لكن هذه الرياضة المستوردة لم تعجب الكثير من رجال الدين، نظراً لسراويل اللاعبين القصيرة، وقد اعترضوا على انتشارها السريع بين شباب دمشق قائلين: إنها تلهي اليافعين عن الصلاة والعبادة» وعن وجود الإخوان في البرلمان ودورهم يقول: «مصطفى السباعي أحد مريدي حسن البنا، وكان يفرق بين الزعماء والقادة، ويعتبر أن الزعماء هم من يعمل في السياسة، أما القادة فهم علماء الدين حصراً».

وعن مشاركة المرأة حتى الصغيرة في عيد الجلاء يذكر مبيض من مذكرات علي الطنطاوي، الجزء الخامس، «كان أن دمشق التي عرفناها تستر بالملاءة البنت من سنتها العاشرة، شهدت يوم الجلاء بنات السادسة عشرة وما فوقها يمشين في العرض بادية أفخاذهن، تهتز نهودهن في صدورهن، تكاد تأكلها النظرات الفاسقة».

وبهذا الرصد قدم مبيض الصراع الواضح وغير الخفي بين التيار العلماني والتيار الديني، والذي غالباً ما كانت الكلمة النهائية فيه للتيار الديني ولو بعد وقت مؤجل!

المرأة ودورها

قدّم المؤلف صورة وافية عن المرأة.. وهي ليست كما وصفها علي الطنطاوي في المقطع السابق، وإنما كانت امرأة مختلفة، مشاركة في الحياة بكل تفاصيلها، طموحة، أن تقدم نفسها ووطنها كما يجب، فزوجة الملك فيصل كما يصف المؤلف بهرت بالحرية وشخصية المرأة السورية والدمشقية «تفاجأت الأميرة بلباس ضيفاتها، فجميعهن دخلن سافرت الرأس والوجه، على الرغم من وجود الحرّاس والخدم في القصر» هذا مع أنه يشير قبل صفحة بأن العهد العثماني فرض الملاية على النساء جميعاً المسلمات والمسيحيات واليهوديات والأجنبيات عن البلد! ويتابع «أعجبت الأميرة حزيمة بدرجة التحرر التي شهدتها في سورية، وصارت تشارك في استقبالات النسوان، حيث خصص لها الثلاثاء الأول من كل شهر، لتجتمع سيدات دمشق في دارها الكائنة في منطقة العفيف».

ويتحدث عن نازك العابد التي ربطتها علاقة صداقة قوية مع ماري عجمي واشتركتا في الصحافة معاً حتى عام 1920 مع الانتداب الفرنسي ويصور المؤلف مشهد نازك العابد «نزلت إلى ميدان القتال مع وزير الحربية يوسف العظمة في معركة ميسلون يوم 24 تموز 1920، جالت شوارع العاصمة مع الجنود وفي يدها بندقية، رافعة المنديل عن وجهها وهي ترتدي بزة عسكرية».

ويذكر المؤلف أمراً جديراً بالانتباه «هاجمها بعض المتشددين من أهالي الميدان قائلين إنها عرضت مفاتنها على الناس، وكان أنفع لها أن تبقى في دارها ولا تتدخل في شؤون حربية ليست من اختصاص النساء».

ويشير المؤلف بوضوح أن هذه الحركة التنويرية النسوية كان مصدرها ومبعثها نساء الطبقة الأرستقراطية والسبب لما يملكن من قوة نفوذ ومقدرة، إضافة إلى ضعف حدة المعارضة بسبب المكانة الاجتماعية والسياسية.

«وقد ظهرت عدة سيدات في دمشق يومها، تأثرن كثيراً بماري عجمي ونازك العابد، جميعهن من الأسر الأرستقراطية القديمة، أبرزهن الشقيقتان سعاد وفرلان مردم بك، ابنتا حكمت باشا مردم بك، عضو مجلس المبعوثان العثماني».

تحدث المؤلف عن المرأة ومشاركتها ولباسها، وعن الموضة والكعب العالي، وفي مواضيع عديدة، أظهرت بما لا يقبل الشك بأن الترامواي الذي مر بدمشق هو محطات حضارية وصولاً إلى حق الانتخاب والنضال والمشاركة في الحياة الإعلامية والسياسية، وصولاً إلى الفن الذي تعدد من مسرح وسينما وغير ذلك، وخاصة على يدي أبي خليل القباني، وفي كل مرحلة من المراحل كان المؤلف يتحدث عن الظاهرة التي يرقبها من الترامواي، ويسجل المعارضة المجتمعية المتمثلة دائماً في رجال الين الذين يحاولون في كل مرة أن يقفوا ضد المرأة وحقوقها، الفن وممارسته، ورأينا الأمر يصل بهم إلى كرة القدم، وهناك إشارة مهمة عمد المؤلف إلى ذكرها تتعلق بالمنابر فقد كان المشايخ يلجؤون إلى المنابر عندما تعجزهم الحيلة، وقد ذكر بالوقائع أحداثاً عديدة تدخل فيها رجال الدين من خلال جمعياتهم إلى مراتب عليا لمناقشة أمور فرضها على المجتمع، مثل المرأة والسينما، حتى وصل الأمر بالشيخ علي الدقر ليطلب ترامواي خاص بالنساء لمنع الاختلاط.

وللرقيب مقصه ويتعطل الترامواي العنوان كان موارباً لكنه كان حقيقياً ومدروساً ويظهر ذلك عندما يقول المؤلف «وجاءت الطامة الكبرى في زمن الانفصال، بعد الإطاحة بالجمهورية العربية المتحدة عندما أزيل ترامواي دمشق بشكل كامل، الذي بفضله كانت قد ظهرت حياة جديدة للمدينة وأهلها قبل خمسين سنة».

فالترامواي لم يكن وسيلة نقل وحسب، بل كان الوجه الحضاري الكبير لدمشق، ولابد من توجيه الشكر للمؤلف على لفتات ماعرفناها لولاه، فرجال الدين من مسلمين ومسيحيين كانوا معاً في وجه الترامواي، وليس اليوم، بل منذ البداية «حصل رجال الدين من مسيحيين ومسلمين معاً، على حق مراقبة الأفلام الأجنبية قبل عرضها في الصالات السينمائية، وفي سنة 1923 منعت سلطة المشايخ والخوارنة المشتركة الفيلم الألماني آدم وحواء..».

ويختم المؤلف كتابه بقوله: «مع القضاء على ترامواي العاصمة، فقدت دمشق شريان حياتها القديم، مع شيء من روحها وذاكرتها، وكأن مصير الترام كان يشبه مصير هؤلاء الشباب الحالمين.. شاخوا جميعاً كما شاخ الترام، وأصبحوا عبئاً على الدولة وعلى السياسيين الجدد.. مثل الترامواي».

أخيراً.. في أحدث كتبه يقف سامي مروان مبيض بوضوح مع حياة سورية الحضارية، وحياة دمشق من العهد العثماني في خواتيمه وإلى يومنا، مصوراً خروج الدمشقيين من دمشق القديمة إلى الأحياء الراقية الحديثة، وبحثهم عن السبل الحضارية التي أرادوها وكيف واجهتهم الصعاب الكثيرة، ولم يخف دور الجمعيات ورجال الدين في كل ناحية حين تدخلوا في كل صغيرة وكبيرة، وحين تعطل الترامواي وتوقف، توقفت ذاكرة المدينة وكأنه منذ ذلك اليوم نزلت تحت تأثير الماضي، وابتعدت عن اللحاق بالحضارة في كل ميدان.. «شاخ الترامواي..» شاخت الرموز.. وكأن نبتاً جديداً لم يتهيأ له الترامواي والتواصل هو الذي يمشي بعيداً عن أي شيء يمكن أن يكون حداثة.. فأي قدر رسم لهذه البلاد وحدد معالمها؟، وجعلها تشيخ قبل أوانها؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن