قضايا وآراء

تفجير إسطنبول «ورقة يانصيب» بجائزة ترضية

| عبد المنعم علي عيسى

لم تتأخر الشرطة التركية، ولا المسؤولون الأتراك، لأكثر من 24 ساعة على حدوث تفجير إسطنبول في 13 شهر تشرين الثاني الجاري، حتى خرج الاتهام لـ أحلام البشير التي قال هؤلاء إنها فتاة سورية سبق لها أن تلقت تدريبات على يد «حزب العمال الكردستاني»، في حين ذهب وزير الداخلية التركي سليمان صويلو لتفسير الفعل على قاعدة أن هذا الأخير كان قد «تلقى ضربات قاسية في شمال العراق على يد الجيش التركي، لذا قد يكون قرر نقل المواجهة إلى الداخل التركي، بل إلى المدن تحديداً».

بغض النظر عن صحة الاتهام وحيثياته التي أخرجت للعلن رواية رسمية تركية ضعيفة حتى إنها لم تحظ بإجماع داخلي، هذا إن لم نقل إنها أحدثت انقساماً في أوساط التيارات والأحزاب التركية التي لا تعوزها أسباب الانقسام أصلاً، بل إن البعض «التركي» كان قد رأى فيها محاولة لتكرار السيناريو الحاصل بعد انتخابات حزيران 2015 التي خسرها حزب «العدالة والتنمية» ليتقرر إعادة الانتخابات بعد خمسة أشهر وليعاود الحزب تثبيت أقدامه في السلطة، وإذا ما صحت تقديرات هؤلاء فإن الفعل سيستخدم لتعويم هذا الأخير وخصوصاً بعد إخفاق مشروع «الإسلام المعتدل» وبإقرار رسمي يمكن لحظه عبر التقاربات الحاصلة مع السعودية والإمارات وبدرجة أقل مع مصر وسورية، وقد كان من الواضح أن أنقرة ستعمل على تجييش محدود زمنياً لعل الفعل يفضي إلى انزياحات في الموقفين الروسي والأميركي، كلاهما أو أحدهما، للوصول إلى مرمى قديم عبر العودة إلى نغمة «المنطقة الآمنة» التي لا تزال، كما يبدو، تمثل أولوية لدى النظام التركي.

ضعف الرواية مرده إلى أنها استندت لعامل «المصلحة» الذي ذكره صويلو في تصريحه آنف الذكر، وإذا ما كان ذلك محتملاً، وهو ليس بغريب عن سياسات الحزب الذي اتهمه بتنفيذ التفجير، لكن العامل نفسه، أي عامل المصلحة، يحتم على القائم بالفعل أن يذكر أن ثمة آخرين مستفيدون بدرجة أكبر، وبما لا يقاس، من التداعيات المحتملة للتفجير، مثل الولايات المتحدة، ولربما إسرائيل، اللتين تنظران إلى التقارب السوري الحاصل قبل نحو أشهر على أنه فعل من الجسامة بحيث قد يؤدي إلى عملية خلط أوراق من العيار الثقيل، بل قد يستدعي النظر، لدى هؤلاء، في إستراتيجيتهم المتبعة حيال الأزمة السورية، ومن المؤكد أن ذلك المسار، أي مسار التقارب السوري التركي، كان قد تلقى ضربة موجعة ما بعد 13 الجاري، فيما حجمها ومآلاتها قد تتكشف في غضون الجولة التاسعة عشرة من مسار «أستانا» المقرر عقدها في العاصمة الكازخستانية أواخر الشهر الجاري.

بعد مرور نحو أسبوع على تفجير إسطنبول اتخذ الخطاب التركي منحى كان من الواضح أنه ذاهب إلى التخفيف من حدته، فعلى الرغم من أن الرئيس التركي كان قد قال على هامش قمة العشرين التي انعقدت مؤخراً بأندونيسيا إن «من يدعم التنظيم الإرهابي، ويقصد ميليشيات «قسد»، بحجة محاربة داعش هم أيضاً شركاء في كل قطرة دم تراق»، إلا أن هذا الخطاب تقليدي ومعتاد ولا جديد فيه، بل لا يفهم منه أن الرد سوف يكون من النوع الخادم لفكرة «المنطقة الآمنة»، والراجح هو أن أنقرة ستكتفي بزيادة زخم هجماتها ضد مواقع «قوات سورية الديمقراطية» وقيادييها، والرجحان إياه يعود أيضاً لاعتبارات عدة، لعل أبرزها هو مرور «القبضة» التركية على فصائل الشمال بمرحلة حرجة، فلا أنقرة استطاعت حتى الآن «تقسية» قبضتها كما تحب، ولا الأخيرة تراخت بدرجة قد تستدعي شد عصبها مما يمكن أن تأتي به رياح عملية عسكرية واسعة، ناهيك عن أن أنقرة، لا تزال ترى أن «إفشالها» للمساعي الأميركية الرامية لإقامة علاقات اقتصادية وميدانية مع فصائل منتشرة في الشمال وصولاً إلى محاولة خلق تجمعات جديدة تدار من واشنطن، هو أمر لا يزال في طوره الجنيني وهو بحاجة للتمكين حتى يتأكد لواشنطن إخفاق تلك المساعي تماماً.

قد يكون السيناريو السابق، الذي نقصد به هنا تكثيف الجيش التركي لهجماته ضد «قسد» وقيادييها، هو الراجح، لكن ذلك يظل مرحلياً بمعنى أنه سيظل راجحاً إذا لم تنجح أنقرة في إحداث ثقب في أي من الجدارين الروسي أو الأميركي، وإذا ما كان الجدار الأول، أي الروسي، يبدو متعذراً قياساً للجهود التي تبذلها موسكو لحلحلة الملف السوري وإيجاد تقاربات إقليمية تساعدها في نجاح تلك الجهود، فإن الجدار الأميركي، قد لا يتمتع بالصلابة عينها التي يبديها الأول، وخصوصاً أن قواعده في الشرق السوري ما انفكت تتعرض لهجمات تبدي قابلية لافتة للتكاثر، وهذا قد يدفع واشنطن لإعطاء «ضوء نصف أخضر» لعمل عسكري محدود يكون من نتيجته تقليص المساحات التي تسيطر عليها «قسد» الأمر الذي يعزز «الاستقرار» الذي لا يبدو أن الأخيرة قادرة على فرضه على الرغم من الدعم اللوجستي والاستخباراتي الذي تحصل عليه.

تفجير إسطنبول، وفق الرواية التركية، هو «ورقة يانصيب» لم تربح «الجائزة» لكنها لن تمر من دون جائزة ترضية، وهذه الأخيرة سوف يتوقف حجمها على المسارات التي يمكن لها أن تتكشف في أعقاب جولة «أستانا» المقرر انعقادها أواخر الشهر الجاري في العاصمة الكازخستانية، وخصوصاً أن تلك الجولة ستكون أقرب لـ«جس نبض» أخير للنيات التركية تجاه دمشق التي شهدت تلوناً كانت علامتاه الفارقتان هو «الدفء» صيفاً قبيل أن تخف حرارته هذا الخريف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن