اقتصاد

الأسرار القذرة للحيتان المتعديـّة للقارات

| د. سعـد بساطـة

بعيداً عن أعين العالم الذي يعـد قادته بحماية كوكبنا بمؤتمر المناخ «كوب75» بمصر؛ هناك ألوف يواجهون سرطان الدم، لكونهم يعيشون قرب حقل نفط عراقي، تديره شركة بريتش بتروليوم. وعـندما اكتشف الملأ أن الشركة لم تصرح بمقدار انبعاثات الغاز التي تتسبب بها، انتشرت حقيقة الهواء المسموم الذي يستنشقه أبناء المنطقة. نرى سماوات مشتعلة وسحباً من الدخان الأسود تعرف بعملية حرق الغاز الخارج من آبار النفط؛ وهذه تتسبب بأمراض خطرة على رأسها سرطان الدم لدى القاطنين قرب تلك الحقول. صرح موظف بالشركة «أن واجبها التقيد بأفضل الممارسات الدولية عند التشغيل والصيانة ولكن ممارساتها البغيضة لاتتوافق مع المعايير الدولية التي التزمت بتنفيذها عند التعاقد معها».

وفي السياق ذاته هنالك شركة الفواكه المتحدة (United Fruit Company)‏ وهي أميركية تتاجر بالفواكه الاستوائية والموز من دول أميركا الجنوبية، تأسست1899؛ وفي كثير من الدول الأميركية الجنوبية الفقيرة كانت هي التي تدير الاقتصاد ليصب في مصالحها (ومن هنا جاء تعـبير «جمهوريات الموز»)؛ للدلالة عـلى دول تدور في فلك شركات جشعـة لا تعـرف الشبع!

لعـل كارثة شركة يونيون كاربايد هي الأسوأ في التاريخ، حدثت في مدينة بوبال في الهند أدى الانفجار بمصنعـها للمبيدات نهاية 1984 ما أطلق غاز ميثيل إيزوسيانات الشديد السمية وتعـرّض له أكثر من نصف مليون نسمة حيث بلغت حصيلة الوفيات نحو عشرة آلاف خلال الأيام الثلاثة الأولى، وحوالي 25 ألفاً في السنوات اللاحقة و50 ألفا تعرضوا للإعاقة نتيجة لتلك الكارثة، بعد الحادثة اتهمت الشركة بالإهمال الجنائي والتسبب بضرر جماعي!

بدأَت أسرة «كاستيل» الإسبانية في بوردو الفرنسية خلال كساد ثلاثينيات القرن الماضي، بمشروع بسيط للنبيذ، سمّوه «مجموعـة كاستيل». حينها بدأت إمبراطورية المال والأعمال والخمر تتضخم لتصبح الشركة الأولى بسوق النبيذ في فرنسا وتجاوز عدد موظفيها الأربعين ألفا، ومعاملات بمليارات الدولارات. ولكن الثورة الحقيقية أتت من باب مختلف فتح في قارة مختلفة، باب الجعة في القارة السمراء إفريقيا.

استغلت الشركة الحضور الكولونيالي بأفريقيا في الخمسينيات لعقد الصفقات، وبدأت بإنشاء مراكز تعبئة زجاج النبيذ. بيد أن الحدث الأهم عام 1965 إنشاء مصانع البيرة بالغابون بوصفها حجر الأساس لإمبراطورية كاستيل. انتشر استثماره بأرجاء القارة عبر شراء مصانع وشركات البيرة في: الكونغو ومالي وإفريقيا الوسطى، وفي 1990 يتوسع للكاميرون والسنغال وساحل العاج وبوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا. ومع شراء كل مصنع جديد، تبدأ تصفيات اليد العاملة، هكذا كان يفكر المستثمر الفرنسي، ليتمكَّن بعد ذلك من الوصول لأسواق جديدة، كبنين وغينيا ومدغشقر ومالاوي. لم يكن هذا التوسع ناتجا دون علاقات قوية مع الحيتان المحليين، وقد لعب دوراً مهما في وصول الرئيس الأسبق لإفريقيا الوسطى للحكم عام 2003 عبر انقلاب عسكري.

وتُشير التحقيقات إلى أن الشركة دفعـت أتاوات للميليشيات المسلحة، للسيطرة على مناطق شاسعة بها، ومن بينها وسط البلاد، حيث يوجد مصنع السكر التابع للشركة. نتيجة التحقيقات أعلنت مصادر فرنسية عن فتح تحقيق حول تورط الشركة في تمويل جرائم حرب، فيما اعتبر محامو الشركة أن هذه الضوضاء تهدد المصالح الاقتصادية الفرنسية في إفريقيا والتشويش على ما يحيط بها، فيما تواصل أعمالها على الأرض. وبجانب استنزاف الشركات الغـربية للموارد البشرية وموارد البلاد الطبيعية، وسيطرتهم على مساحات شاسعة من الأراضي يعني زراعة المنتجات الفلاحية التي تحتاج إليها الشركة فقط كقصب السكر والشعير، وهو ما يضر بالتنوع البيولوجي في هذه المناطق. في الوقت ذاته، تستعمل المبيدات والمواد الكيميائية السامة الممنوعة بالاتحاد الأوروبي لخطورتها وتسبُّبها بالأمراض التي ظهرت قرب الحقول. الشركة ومن على شاكلتها يد أوروبا القابضة على شريان إفريقيا الاقتصادي، وهي نموذج للطريقة التي يتعامل بها الغـرب مع مستعمراته السابقة، فالقارة السمراء لهم منجم من الذهب ينبغي استغلاله حتى آخر قطرة.

نختم بحروب الأفيون بين الصين الإمبراطورية وبريطانيا؛ وكان السبب محاولة الصين الحد من استيراد الأفيون، ما حدا ببريطانيا أن تقف في وجهها (بسبب الأرباح الكبيرة التي كانت تجنيها من تلك التجارة) وكان من نتائجها أن أصبحت هونغ كونغ مستعمرة بريطانية. ارتكبت في هذه الحروب مجازر وحشية من البريطانيين وحلفائهم، مخالفيـن كل القيم الدينية والبشرية ونشروا الأفيون بين الشعب الصيني، استمر هذا الداء مستشريًا في الصين حتى مطلع القرن العشرين حتى قضي على تعاطيه نهائيًا في عهد ماو تسي تونغ.

من كل ذاك بالكاد يلحظ المرء أي فصل بين التجارة والحرب والسلطة. ولم تقتصر نيات الحيتان على مجرد المشاركة بالتجارة، وإنما التحكم بها أيضاً باستخدام تكتيكات جديدة عدائية وأسلحة متفوقة لفرض إرادتهم؛ على حين يتشدقون بقيم مثل العدالة!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن