قضايا وآراء

تقارب تركي- مصري حذر

| عبد المنعم علي عيسى

كان الانقلاب الحاصل في السياسة الخارجية التركية منذ عام 2020 وصاعداً، تعبيراً عن فشل الخيارات السابقة التي تمثلت بمحاولات إيجاد طبعات عربية لـ«حزب العدالة والتنمية» ودعمها في سبيل الوصول إلى السلطة في بلدانها، وبذا يصبح التمدد، ذو الصبغة الإيديولوجية والمرتبط بالمركز، بديلاً عن السيناريو الذي عرفته المنطقة مطلع القرن السادس عشر والذي قاد إلى السيطرة العثمانية عليها في أعقاب معركة «مرج دابق» شمال حلب 1516، حيث شهد ذلك الانقلاب استدارة بدرجة 180 تمثلت في محاولات التقارب مع الرياض وأبو ظبي المناهضتين للمشروع «الإخواني»، ثم محاولات التقرب من القاهرة ودمشق، التي لا تزال في طورها الجنيني وقد يطول مكوثها فيه قياساً للملفات الشائكة التي تعترض ذينك التقاربين، حيث للفعل هنا اعتبارات جيوسياسية يمكن لها أن تؤدي في نهايتها إلى تداعيات خطرة على الداخل التركي، وتحديداً على سلطة «حزب العدالة والتنمية»، الذي قاد على امتداد عشر سنوات مشروع التمدد آنف الذكر، مخلفاً الكثير من الخراب ونشر الفوضى على امتداد المنطقة العربية، ومن المؤكد أنه كانت لذلك المشروع أكلاف سياسية واقتصادية ما لبثت أن تمظهرت مؤخراً في العديد من مفاصل الحركة التركية التي بدت متعبة بفعل ذلك المشروع حتى أضحت أمام أحد خيارين، أولهما التخلص من الحمولات التي فرضها تبني هذا الأخير، وثانيهما العمل على إحداث تحولات عبر إيجاد مقاربات جديدة للأهداف وكذا للسبل الكفيلة بالوصول إليها.

مثلت المصافحة الحاصلة بين الرئيسين التركي والمصري يوم 20 تشرين الثاني الماضي على هامش افتتاح المونديال في قطر، مفاجأة من العيار المتوسط قياساً لكون أنقرة كانت قد استبقت الفعل بتصريحات كانت في مجملها تشي برغبتها بتطبيع علاقاتها مع القاهرة التي شهدت توتراً منذ سقوط حكم الرئيس السابق محمد مرسي في تموز من عام 2013، ثم لم يلبث ذلك التوتر أن أضحى صداماً واضحاً على خلفية الاتفاقات التي أبرمتها أنقرة مع الحكومة الليبية السابقة، فردت عليها القاهرة بتقاربات مع اليونان وقبرص كانت من النوع المقلق لأنقرة التي صعّدت في هذا الاتجاه، ثم لم تلبث أن عبرت عن رغبتها بالسعي لحوار يكون من شأنه طرح كل الملفات العالقة على طاولة الحوار، ومن دون أدنى شك يمثل الملف الاقتصادي الدافع الأهم نحو هذا التحول التركي الذي يقوم على قاعدة أن التصعيد الإقليمي الدائم كانت له تداعياته الكارثية على الاقتصاد الذي شهد في غضون السنتين الماضيتين بروز مؤشرات على إمكان أن يشهد المزيد من التدهور، إذ لطالما تأكد لدى الأتراك أن مشروعهم الخارجي كان من الثقل بحيث لا تستطيع حوامل الحركة الداخلية إيصاله إلى غاياته المرجوة.

لا يبدو أن القاهرة تعارض عملية التقارب مع أنقرة، لكن شريطة أن يكون الفعل خاضعاً لحسابات المصالح العليا لكلا البلدين، التي يجب أن تراعي أيضاً مصالح دول أخرى إقليمية، الأمر الذي يفسر «لاءات» القاهرة التي ما انفكت تطلقها قبيل أن تذهب باتجاه استئناف العلاقات، الذي قال عنه وزير الخارجية التركي بعد أسبوع من مصافحة الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والمصري عبد الفتاح السيسي إنه قد يحدث في غضون الأشهر القليلة المقبلة، وفيها، أي في تلك اللاءات، ترى القاهرة أن القبول باستمرار وجود القوات الأجنبية على الأراضي الليبية أمر من الصعب التعايش معه انطلاقاً من أنه «يمثل تهديداً للأمن القومي المصري»، وفقاً لتعبير استخدمه وزير الخارجية المصري خلال مؤتمر صحفي جمعه إلى جانب نظيره اليوناني خلال الصيف الماضي، الأمر الذي ينطبق أيضاً على الاتفاقات التي وقعتها أنقرة مع حكومات ليبية سابقة والتي «لا يمكن القبول بها من دون وجود توافق ليبي بشأنها»، وفقاً لما قاله الوزير المصري أيضاً في مؤتمره الصحفي آنف الذكر، قبيل أن يضيف إن «لا عودة عن اتفاقات ترسيم الحدود التي وقعتها مصر مع كل من اليونان وقبرص»، وأن «التقارب مع تركيا لا يمكن له أن يكون على حساب العلاقة القائمة مع كل منهما».

هذه بالتأكيد ملفات شديدة التعقيد، وهي توحي بأن ما ينتظر طاولة المفاوضات، إذا ما عقدت، الكثير من الألغام التي سينتج عنها، فيما لو نجح الطرفان في التلاقي عند منصفاتها، وضع جيوسياسي جديد على مستوى الإقليم، ستكون له ارتداداته على الأوضاع الإقليمية للعديد من الدول، لكن مع ذلك يبدو أن مسار العلاقة التركية- المصرية قابل لأن يشهد تطورات مهمة من شأنها أن توصل الطرفان إلى التلاقي عند المنصفات الذي يبدو خياراً يضعه كل منهما نصب عينيه، خصوصاً إذا ما جنحت أنقرة نحو طمأنة القاهرة تجاه هواجسها الأمنية التي تعلو فوق كل الهواجس، بل إنها قد تكون «مربط الفرس» الذي يتحكم بعلو العوائق السابقة أو انخفاضها.

تبدي أنقرة في الآونة الأخيرة استعداداً لافتاً لإمكان تحديد طبيعة علاقتها القائمة مع تنظيم «الإخوان المسلمين»، الذي يشكل بالنسبة للقاهرة تحدياً من الصعب تجاهله قياساً إلى التوازنات الداخلية الهشة التي قد يؤدي العبث بها إلى أوضاع شبيهة بتلك التي كانت سائدة بين عامي 2011 – 2012 والتي لا يبدو أن البلاد قد شفيت تماماً من «دماملها» التي لا يزال بعضها طافياً على السطح، والاستعداد التركي إياه كان قد تمظهر في محطات عدة لكن أبرزها كان قد جاء على لسان وزير الثقافة والسياحة التركي سردار تشام الذي قال: إن «تنظيم الإخوان تعرض لانشقاقات واختراقات، تسللت من خلالها إليه جماعات إرهابية خاصة داعش»، والمؤكد هو أن التصريح السابق يشير إلى «مرونة» تركية قابلة للتنامي تجاه أخذ هواجس الأمن المصرية بعين الاعتبار، لكن أكثر ما تخشاه القاهرة هو تقلب السياسة التركية التي اشتهرت بزئبقيتها تمايلاً مع رياح المتغيرات الإقليمية والدولية، ولربما كان ذلك سبباً أساسياً في «الفتور» الذي راح يعتري المواقف المصرية في مقابل اندفاعة تركية تريد كسر الحواجز سريعاً على الطرقات الواصلة ما بين أنقرة والقاهرة وما بين الأولى ودمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن