قضايا وآراء

قاسم سليماني.. الدم لا يزال حاراً

| عبد المنعم علي عيسى

في 28 كانون الأول من العام 1968، وصلت إلى مطار بيروت ثلاث طوافات إسرائيلية تحمل على متنها قوة من الكوماندوس لا يتجاوز قوامها الثلاثين عنصراً، وفي غضون نصف ساعة من ذلك الوصول استطاع أفراد القوة تدمير 13 طائرة من شركة طيران «الشرق الأوسط» اللبنانية الذائعة الصيت آنذاك، الفعل الذي دفع بوزير الحرب الصهيوني وقتها موشي دايان، للقول منتشياً إنه قادر «على احتلال لبنان بفرقة موسيقية، وعلى الدراجات الهوائية، أو سيراً على الأقدام».

وفي 10 أيار 1973 رست ثلاثة زوارق مطاطية على شاطئ بيروت وهي تحمل على متنها أيضاً قوة كوماندوس بقيادة إيهود باراك الذي أضحى فيما بعد رئيساً للأركان ثم رئيساً للوزراء الإسرائيلي، ثم توجهت القوة على الفور نحو أهدافها التي كانت على دراية تامة بإحداثياتها، وفي غضون ساعتين استطاع المهاجمون اغتيال ثلاثة قادة فلسطينيين من الصف الأول، حتى إنهم استطاعوا الوصول إلى الغرفة التي كان يبيت فيها ياسر عرفات لكن الأخير كان قد غادرها قبيل وقت قصير من ذلك الوصول، وفي حزيران 1982 استطاعت القوات الإسرائيلية الوصول إلى مشارف بيروت ومحاصرتها على الرغم من المقاومة الوطنية الشرسة المسنودة من الجيش السوري، وفي أتون تلك الأحداث التي كانت تشكل منعرجاً خطيراً انطلاقاً من تهديد إسرائيلي بإسقاط عاصمة عربية كانت تمثل حاضنة للفكر والثقافة العربيين، وتمثل أيضاً إنموذجاً اقتصادياً ناجحاً لربما نظرت إليه تل أبيب على أنه «منافسها» الأكبر في المنطقة، تأسست جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول» التي أثبتت نجاعتها خلال وقت قصير، لكن الجنين الأبرز الذي استولدته تلك الأحداث كان قد تمثل في ولادة «المقاومة الإسلامية» التي ستدخل الصراع مع الكيان الصهيوني مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها على الرغم من أهمية العديد من محطات هذي الأخيرة.

كانت محطتا أيار 2000 وتموز 2006 هما الأبرز من بين المحطات التي سيثبتها مسار «المقاومة الإسلامية» في سياق إدارته للصراع مع الهيمنة الإسرائيلية التي كانت أدبياتها قد قادت نحو القيام بعمليات تبعد آلاف الكيلومترات من نوع عملية «عنتيبي» بأوغندا عام 1976، وقصف منظمة التحرير الفلسطينية بتونس 1985، وما بينهما قصف مفاعل تموز العراقي صيف العام 1981، كانت تلك العمليات ترمز إلى طول الذراع الإسرائيلية القادرة على ضرب أهداف ترى فيها عاملاً منغصاً لمشروعها، وتعني في الآن ذاته أن «الأمن» الإسرائيلي يرتسم عند الحدود التي يمكن لسلاح الجو أن يصل إليها.

لا يعرف كثير عن السيرة الذاتية للشهيد قاسم سليماني ما بين عام انتصار «الثورة الإسلامية» بطهران شباط 1979 وبين حرب تموز 2006 التي شهدت ولادة معادلة ردع جديدة مع كيان الاحتلال، وهي أفضت من حيث النتيجة إلى تقزيم القدرة والذراع الإسرائيليتين، سوى أنه كان «جندياً صامتاً» في صفوف «الحرس الثوري الإيراني» على الرغم من أنه كان قد وصل العام 1998 إلى منصب قائد «فيلق القدس»، القوة الضاربة الأهم من بين القوى التي يحتويها هذا الأخير، والثابت هو أن شيئاً ما في كاريزما الرجل كان يجعلها نافرة من الأضواء التي كان يتجنبها في مؤشر يؤكد وجود نزعة لديه هي أقرب للإيمان المطلق بأن صوابية المسار والمصير هي فعل لا يحتاج للكثير من الشروحات أو التنظير، إذ لطالما كان من المؤكد أن «التصوف» فعل طارد للشهرة أو هو يتناقض معها، فكيف إذا ما أضيفت إلى هذا الأخير صفة «الجهادي» التي غالباً ما تضفي عليه صبغة تحيله إلى «فعل صامت»، وما تسرب عن تلك السيرة، وهو قليل، كان يشير إلى أن صورة الرجل الفولاذي التي يظهر عليها في النهار كانت تحمل واحدة نظيرة لها في الليل تضعه بين «البكائين» الضارعين أبدا إلى اللـه بأن تكون «الشهادة» هي خاتمة المسار، لكن تلك السيرة ستكون على موعد مع الأضواء لم تكن ترغب فيه ما بعد حرب تموز 2006 التي أدارها باقتدار إلى جانب كل من رفيقيه حسن نصر اللـه والقائد عماد مغنية، والشاهد هو أن ذلك الأداء، الذي لم تهتز فيه الأعصاب بعكس ما كانت عليه حال القادة أيام حزيران الستة من العام 1967 مثلاً، كان مؤشراً قرأ في الغرب على أن المنطقة قادرة على استيلاد قيادات من النوع التي تستطيع الحفاظ على هدوئها حتى في ظل ما تمطره القاذفات من وابل جحيمها الذي استنسخت التكنولوجيا الغربية طبعات مهولة منه، كان انضباط الأعصاب، وعدم اهتزازها، قد شكل فارقاً كبيراً بين تاريخ مضى وتاريخ جديد ينبئ بأن المنطقة استطاعت «جب» دروس الصراع والاستفادة منها وصولاً إلى تجيير الفعل في المنازلات الراهنة والمقبلة على حد سواء.

فيما بعد ستتسع بصيرة الرجل لتظهره بمظهر الإستراتيجي القادر على ربط جبهات المقاومة بعضها ببعضٍ بدءاً من سورية والعراق ثم مروراً بفلسطين ولبنان ووصولاً إلى اليمن، الأمر الذي شكل تحدياً للغرب لا مناص من مواجهته.

جاء في وصية سليماني «زوجتي لقد حددت مكان قبري في مقبرة الشهداء في كرمان، محمود (وهو نجله) يعرف ذلك، فليكن قبري بسيطا كقبور باقي أصدقائي من الشهداء، وليكتب عليه الجندي قاسم سليماني»، كان هذا يليق بقائد برتبة جندي، وبثائر برتبة شهيد.

اليوم، لا يبدو أن دماء «الجندي» قد ابتردت، وهي لا تزال حارة في ذكراها الثالثة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن