قضايا وآراء

تحولات غربية على ضفاف الصراع الأوكراني

| عبد المنعم علي عيسى

في منتصف وأواخر القرن التاسع عشر بدأت فضاءات الفكرة «الديمقراطية» تتسع في الغرب على ضفتي الأطلسي الأوروبية والأميركية الشمالية، كان ذلك بفعل عوامل عدة لها علاقة بدرجة نضج تلك المجتمعات من جهة، ثم بظهور نخب فكرية راحت تنظر لها وتضعها في موقع «الحل السحري» لأزمات السياسة والاقتصاد والثقافة في مجتمعاتها من جهة أخرى، أما ترسيخ جذور الفكرة فقد جاء عبر عملية الربط ما بين الفكرة، الديمقراطية، وبين الحداثة والتنوير وصولاً إلى العقلانية، والشاهد هو أن ذلك المسار كان قد شكل رافعة استطاعت الدول الغربية من خلالها الوصول إلى حال من الاستقرار الذي مهّد بدوره لفتح آفاق المجتمع وتماسكه وصولاً إلى تحرر الطبقات الاقتصادية التي وجدت في النموذج ما يحقق مصالحها وينمي من قدراتها انطلاقاً من كون الفعل، أي النموذج الديمقراطي، يفتح باب المنازلة بين تلك الطبقات الرأسمالية وبين القوى العاملة في ظروف لا يمكن فيها لهذي الأخيرة الصمود، أو تحقيق النصر، أمام الأولى.

وفي أتون الحرب الباردة 1945 – 1989 كانت الديمقراطية ديدن الغرب الذي خاض منازلته الكبرى عبره في مواجهة النظام السوفييتي «المستبد»، وفي حينها راح مفكرو الغرب، ونخبه، يؤسسون لذلك الصراع، الذي كانت التوقعات عندهم تقول إنه سوف يطول إلى أمد أبعد من الذي جرى حسمه فيه، بطريقة يمكن اختصارها بمبدأ «هم ليسوا كما نحن«، وهذا المبدأ كان يمثل إسقاطاً لشعارات فلسفية من نوع «اختلاف النموذج» و«حتمية انتصار الأحرار»، وبساطته أتاحت سريانه على مستوى الشارع الغربي الذي راح يبني على أساسه إضافات أخرى من نوع «لأنهم كذلك، فهم استبداديون وغير إنسانيين».

ما بعد سقوط «النموذج الشيوعي» بطبعته السوفييتية راجت في الغرب نظريات إسنادية لتلك المفاهيم من نوع «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما التي تنبأت بأن انتصار «العالم الحر الديمقراطي» يمثل نهاية لمسار التاريخ، كاتجاه وليس كأحداث، ثم راح الغرب يعمل على تصنيف العالم وفقاً لقربه من نموذجه مع التفريق بين نوعين من ذلك القرب، أولهما بفعل القناعة التي ترسخت نتيجة للانتصار الساحق على النموذج المنافس، وثانيهما بفعل «المحاباة» التي يلجأ البعض من خلالها إلى التعاطي بواقعية مع مجريات الأحداث، حيث من الممكن لحظ التفاوت في السياسة الأميركية تجاه العديد من دول العالم قياساً إلى الرؤيا التي تتبناها في الدوافع التي قادت بهذي الأخيرة نحو تقارباتها معها.

عندما اندلعت الحرب الأوكرانية شباط عام 2022 ندد الرئيس الأميركي جو بايدن بـ«قيام دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن بانتهاك سيادة دولة أخرى»، ثم نحا الغرب الأوروبي نحوه بسياسات كانت متفاوتة في سقوفها تجاه هذا الموقف الأميركي الأخير، وفي المواقف المتقدمة التي كانت تسير على وقع تطورات الأحداث مضى بايدن في التفاخر بـ«دفاع الأوكرانيين الصلب عن أراضيهم»، في الوقت الذي كان يصف فيه فعل الفلسطينيين والعراقيين واليمنيين الذين رفعوا السلاح دفاعاً عن أرضهم وهويتهم بـ«الإرهابيين»، ثم راحت خطابات باقي الغرب تنشد ألحانها على وقع «المايسترو» الأميركي الذي راح يختط، من خلال قيادته لتلك الأوركسترا، منهجاً إيديولوجياً جديداً قد لا يشبه في شيء نظيره السائد على مدى القرنين الماضيين.

بات الخطاب الغربي الليبرالي – الديمقراطي اليوم، بعد عشرة أشهر على اندلاع الصراع الأوكراني، أشبه بخطاب يرمي إلى تأسيس تحالف لـ«العرق الأبيض» على ضفتي الأطلسي، وهذا التحالف بات أشبه بـ«الدين» الذي يرى أن «الحق» ملك يمينه فحسب، والجميع، من سواه، هم على «باطل»، ثم راحت نزعة «التبشير» تفرض نفسها بقوة على ذلك المنحى، حيث الفعل هنا يمثل مبرراً للتدخل العسكري وغزو أراضي الآخرين لتحويل العالم بأسره إلى صورة شبيهة بتلك التي يتبناها هذا الأخير.

هذي الملامح سبق لجنينها أن ظهر في المقاربة التي قدمها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إبان تبريره لغزو العراق 2003، فهو وصف ما يقوم به بأنه «مهمة إلهية مقدسة، وأن الله يبارك هذه الحرب»، لكن ذلك لم يلق في حينها صدى شعبياً في أوساط الغرب الذي تمايزت مواقفه، نخبوياً وعلى مستوى الشارع، إلى طابقين كان المؤيد منهما يمثل الشريحة الأضعف أو الأقلية، لكن المشهد اليوم يبدو كأنه انقلب رأساً على عقب، فالأقلية السابقة اكتسحت المشهد وباتت تتربع على هرم الصدارة فيه.

الآن بات من المؤكد أن الإيديولوجيات التي اعتمدها الغرب لتسويق نموذجه من نوع «الديمقراطية» و«الليبرالية» لم تعد كتلك التي كانت عليها في الماضي، وهي أضحت اليوم رمزاً سياسياً بات يستخدم في الصراع العالمي الدائر راهناً، وهذا الصراع اكتسب، في غضون الأشهر العشرة الماضية، رؤى عنصرية ذات طابع عرقي وهي تعتد بنظير لها نخبوي ثقافي، فيما التشبيك بين ذلك كله يهدف إلى التأسيس لمنظومة إيديولوجية قادرة على إسناد النفوذ الذي تهالكت الكثير من نسجه، لكن للفعل من حيث النتيجة مخاطر يبدو أنها غائبة عن القيّمين عليه، أو أنهم باتوا مضطرين لتجاهلها قياساً للمكاسب المرجوة منها، فخطاب الغرب بات أشبه بتصدير «دين» جديد إلى العالم بكل ما يحويه ذلك من ارتدادات محتملة، خصوصاً أن استحضار إرث وتراث جديدين أمر لا يبدو متاحاً الآن.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن